الصورة عن ويكيبيديا

جريدة صيدونيانيوز.نت / صراع مع الشيطان

صيدونيانيوز.نت/ أقلام ومقالات / صراع مع الشيطان

وجعلت أرصد الشيطان، فإذا هو مرابط لي عند كل طريق يؤدي إلى الجنة، ...

حاول أن يسخّطني على الله ويكفرني بنعمه عليّ، حينما مرّ بي في الطريق رجل كان معنا في المدرسة فخاب وقصّر، وكان مضرب المثل في السوء فطُرد من المدرسة، فما هي إلا أن جال ههنا وههنا حتى صار له الجاه العريض والمال الكثير، فجاء الشيطان يقول لي: أما ترى هذا؟ أتكون أنت في علمك وفضلك دونه مالاً وجاهاً، ما هو ذنبك حتى تقصر بك الأقدار عنه؟

فقلت: اخرس يا عدو الله! تريد أن أكفر بنعم الله عليّ؟ وهل في الدنيا أحدٌ نال الخيرَ كله حتى ما يزيد عليه فيه أحد؟ فلماذا أنظر إلى هذا ولا أنظر لأناس هم مثلي (إن لم يَفْضُلوني) علماً وخلقاً، وهم دوني في الجاه والمال؟ ولماذا تريدني أن أنظر لمن هم فوقي في الدنيا لأحسدهم، ولا أنظر لمن هم فوقي في الدين؟ لماذا أزاحم على زيادة درجة في دار الزوال ولا أزاحم على زيادة درجات في دار البقاء؟

لماذا أحسد هذا إن صار ماله أكثر من مالي، ولا أحسد ذاك على أنه صلّى أكثر من صلاتي، ونال أكثر من ثوابي، وكان له في بنك الحسنات رصيد أكبر من رصيدي؟ ولِمَ أحسده على ماله ولا يحسدني هو على علمي؟ أليس العلم والخلق والذكاء نِعَماً كنعمة المال والجاه؟...

 

وحاول أن يثير ما أخمدته السنون من شهوتي حين واجهت في الترام فتاة إفرنجية كأنها فلقة بدر، وقد كشفت عن النحر والصدر والقدم والساق، ولقد ألممت بهذا كله منها بالنظرة الخاطفة. وذكرت حديث النظرتين وأن «لك الأولى وعليك الثانية»، فغضضت عنها وملت ببصري إلى الطريق وبفكري إلى مسائل أُخَر. فرجع الشيطان بفكري إليها، وجعل يعيد عليّ تصور مفاتنها ويمثلها لي على صور لا أستطيع أن أعرض لها بالوصف، وإن كان كل قارئ يدرك مثلَها بالتصوّر، فسرقَتْ عيني نظرة أخرى إليها من غير عزم مني عليها، فاستعذت بالله وقرأت الآية: {يَعْلَمُ خَائنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفي الصُّدورُ}، متعجِّباً من دلائل الإعجاز فيها، وأنها ألمَّت بأربع كلمات فقط بحالات النفوس البشرية ودخائلها؛ «خائنة الأعين»؟ لقد خانتني عيني حقيقة، فما أعظم أسلوب القرآن!

ولما رأيت أن المعركة مع الشيطان قد طالت وخفت ألاّ أثبت في الميدان فررت بديني ونزلت فوقفت أنتظر تراماً آخر، هذا وأنا في سن الخمسين، فكيف بابن العشرين أو الثلاثين؟

 

وجاء الترام الآخر فركبته، وأحسست أن الملعون قد ركبه معي، فما إن أخذت مكاني في غرفة الدرجة الأولى، وسلّم عليّ الجابي وسلّم عليّ بعض الركاب وأثنوا على أحاديثي ومواعظي، حتى وسوس لي الشيطان يقول: أرأيت؟ إن ألسنة الخلق أقلام الحق، وإن ثناءهم عليك يكتب لك ويشهد لك بالصلاح.

فقلت: أعوذ بالله منك أن تخدعني عن نفسي وأن تجعلني أصدق كلامهم فيّ.

وصعد رجل ما عليه إلا أسمال ممزَّقة وسخة لها رائحة تزكم الآناف، فضممت عنه ثيابي ليمرّ، فلم يسعه إلا أن جاء فقعد إلى جنبي. وأحسست بنار الغضب تشتعل في أعصابي، ووثق الشيطان من انتصاره هذه المرة عليّ، فرجعت وقلت: لا والله، لا أشمّت الشيطان بي. وذكرت عهديَ اللهَ، وتوجهت إليه مستعيناً به، فأنزل السكينة عليّ وبدّل مقاييس الرجال في عيني. وما أكثر ما تتبدل هذه المقاييس؛ ففي التدريب العسكري يصنَّف الناس على طول الأجسام، فإذا رجعوا إلى وظائفهم صُنِّفوا على المراتب والدرجات، فإن جاءت المعركة صُنِّفوا على الشجاعة والإقدام، فإن كان دفع الضرائب صُنِّفوا على المال والأملاك ... ورأيت كأني في يوم العرض، يوم الامتحان الأكبر، يوم يكون الناس قسمين لا ثالث لهما: ناجحين في الامتحان يمشون فرحين مستبشرين إلى الجنة، وساقطين في جهنم يشيّعهم الخزي والعار، وقلت: لعل هذا بثيابه القذرة ورائحته المنتنة يكون مع الناجين، وأكون أنا -لا قدّرَ الله- مع الهالكين، ولعل من حقه هو أن ينفر مني ويضم ثيابه عني!

واستغرقت في هذه الخواطر حتى بلغ الترام الغاية

المصدر : المكتبة الشاملة الحديثة / صراع بين الطنطاوي والشيطان / من كتاب صور وخواطر(علي الطنطاوي)  / صفحة : 259-263

 

2018-01-29

دلالات: