الرئيسية / أخبار لبنان /ثقافة وفنون /رحيل منى السعودي: المنحوتة الأخيرة

جريدة صيدونيانيوز.نت / رحيل منى السعودي: المنحوتة الأخيرة

 

Sidonianews.net

---------------

 

 

الأخبار / نوال العلي  

 

في أواخر أيلول (سبتمبر) 2008، دخلتُ مبنى «الأخبار»، فرأيت الشاعر الراحل أنسي الحاج يقف أمام المصعد. وقفتُ بجانبه صامتة، سألني مازحاً: من أين جئت؟ نظرتُ إليه وقلتُ بزهو: من عند منى السعودي (عمان 1945 ــــ بيروت 2022). ارتسمت ابتسامة على وجهه، وقال: «تعي خبرك أول مرة التقيتها». كنت أعرف نصف القصة من صاحبتها. أخبرتني يوم أرسلت مجموعة قصائد من الأردن إلى بريد مجلة «شعر»، ومعها رسومات موقّعة باسم فتاة لا يعرفها أحد. كانت القصيدة تبدأ هكذا: «المدينة عمياء/ ورؤاي تتوالد في الشوارع/ في فوضى الأشياء في متاهات اليقظة/ أسمع أصوات الصمت/ وارتخاء الزمن والبحر، وارتخاء الليل/ أتدفأ بالأرصفة الباكية، حيث يحضر الوجود فجأة/ محمولاً على الشمس». لغة ليست غريبة حين نعرف أنها بدأت قراءة الشعر والتعلق به مراهقة من «أرض» إليوت.

مقالات مرتبطة

هكذا حدّثنا الرخام سمير الصايغ

 

الهروب المراهق إلى بيروت

روى أنسي كيف أنّ فتاة صاحبة شعر مجعّد يكلّل رأسها، ونظرة حادة لكن عميقة في آن، اقتحمت احتفال مجلة «شعر» في بيروت الستينيات، من دون أن تكون مدعوة إليه. توجهت باعتداد إلى الحاج ويوسف الخال وأدونيس، وعرّفت بنفسها كما لو أنها معتادة على هذه الأجواء. هكذا بدأت صداقة جمعت المراهقة بالشعراء الكبار واستمرت عمراً. ذكرت السعودي كيف كان الثلاثة يضحكون حين تقول لهم بتحدٍ إنّها ستذهب إلى باريس، وهناك ستصير فنانة كبيرة. وصفها صاحب «الرسولة بشعرها الطويل كالينابيع» بأنها كانت «تظهر بمظهر القوة كأن لا شيء ينقصها. كان المرء يشعر بالضعف أمامها، لكونه لن يضيف إليها شيئاً».

 

لدى وصولها إلى العاصمة اللبنانية هاربةً من عمان، قضت نهاراً كاملاً تتسكع في شوارع بيروت. وصلت في عمر الـ 16 عاماً وتوجهت إلى فندق للشباب في كورنيش المزرعة. كانت هاربة من أهلها المحافظين المتدينين آل السعودي، الذين جاؤوا من الحجاز في العشرينيات قبل أن تستقر بهم الطريق في عمّان حيث عاشوا في محيط المدرج الروماني. أرادت منى بعناد أن تدرس الفن الذي تعرفت إليه في كتب كانت تستعيرها من المركز الثقافي البريطاني. وتريد أن تدرسه في باريس تحديداً، وسوف تجد طريقة لفعل ذلك. هناك لا تلزم شهادة ثانوية عامة لتلتحق بكلية الفنون الجميلة، وهي لن تضيع من عمرها سنة من أجل شهادة «توجيهي».

مع ذلك، ستدرس الفتاة بنظام الثانوية العامة المصري الذي كانت توفره المدرسة الوطنية الداخلية في عاليه، عملاً بنصيحة شقيقها الذي وقف إلى جانبها ضد إرادة العائلة. وفي عام 1963، أقامت بمساعدة صديقها الفنان الراحل بول غيراغوسيان معرضها الأول في «مقهى الصحافة» في منطقة الحمرا. ومِن مبيع أعمالها، ابتاعت تذكرة سفر إلى باريس بالباخرة. رحلة امتدت سبعة أيام ظلّت تصفها كلما ذكرتها في مقابلة بـ «الأسطورية».

 

البدايات الباريسية

لدى وصولها إلى عاصمة الأنوار في شباط (فبراير) 1964، اتصلت منى بصديق تعرفت إليه في بيروت هو الرسام والنحات حليم جرداق (1927-2020). كانت الغربة مختلفة هذه المرة، تحتاج إلى لغة جديدة وإلى معرفة من نوع مختلف، فباريس أبعد وأعقد من بيروت. عثر لها جرداق على فندق رخيص يمكنها أن تضع حاجياتها وتقيم فيه قبل أن يصحبها إلى مدرسة الفنون الجميلة مع رسوماتها، حيث أصبحت طالبة بشكل رسمي وبدأت من النحت. فترة تذكّرها أنسي جيداً ووصف لقاءات ثقافية وسجالات كان مركزها الحجرة الصغيرة للطالبة المتحمسة، حيث يجتمع أصدقاؤها اللبنانيون يتحدثون في النحت والفن والسياسة والثقافة كلما زاروا باريس.

سرعان ما وقعت ثورة أيار 1968 التي شاركت فيها منى السعودي. ورغم أن هذه الأحداث لم تدم أكثر من شهرين، إلا أنها أثرت في وعيها السياسي والثقافي والاجتماعي على نحو لم تتوقعه هي نفسها، كما تذكر في مقابلة أجريت معها عام 2019 في بودكاست «خلقت بنت». قررت السعودي العودة إلى عمّان وأن تعمل في الثورة التي تخصّها، من هناك، من المخيمات الفلسطينية حيث اشتغلت على تجارب فنية مع الأطفال. أصدرت وقتها كتاباً بعنوان «شهادة الأطفال في زمن الحرب» جاءت لتطبعه في بيروت، لتظلّ فيها منذ ذاك، مفضلةً أن لا ترجع إلى الأردن إلا في زيارات قصيرة ومتقطعة.

 

تحية إلى محمود درويش 4 (شاشة حريرية وألوان مائية ــــ 100 × 70 سنتم)

 

منحوتة «أم/ أرض» (1969)

 

لو أن الإنسان حجر

أتذكر من مقابلتي مع الراحلة تلك القوة في حركتها وبنيتها، وأتذكر بشكل خاص يديها الكبيرتين، تلك الطراوة التي بدت لي مضادة للحجر الذي ألفت العمل عليه وتشكيله كالعجين. كانت للسعودي يدان مائيتان، لكننا نعرف أن الماء حين يتدفق بقوة، يمكنه أن يحطم صخرة. اختارت الفنانة الجسد المؤنث ثيمةً أساسية لمشروعها النحتي. كثيرون يعدونها مثّالة الأمومة. لكن الأمر قد يكون أيضاً أبعد من ذلك: من بين جميع مظاهر الزوال، فإن جسم الإنسان هو الأكثر ضعفاً والأقصر وجوداً على الأرض، وهو كذلك المصدر الأول للفرح وللألم وللحقيقة. وربما يكون فهم الأجسام الضعيفة، لا المعطاءة فقط، ضروريّاً لفهم أعمال السعودي التي رحلت عنّا أول من أمس بعدما قاومت السرطان لعامين بقدر ما أوتيت من احتمال وقوة.

ثمة شيء دائري ومنطوٍ ومحمي دائماً في أعمالها التي تقدّها من خامات تحبها: الرخام الإيطالي أو الجنوب أميركي، الديوريت الأسود، المرمر والعقيق اليماني، الحجر الجيري الوردي واليشم الأردنيان، الحجر الأصفر اللبناني، حجر الترافرتين الإيراني أو حتى الغرانيت الزمردي الأفريقي.

اشتهرت للسعودي أعمال أكثر من غيرها، مثل «هندسة الروح» التي تقف أمام «معهد العالم العربي» في باريس، ولها عمل من الرخام الأبيض بعنوان «ولادة بيروت»، و«شجرة الحياة»، و«نشوء» (2002) الذي تركت فيه عروق اليشم ذات اللونين البني والأخضر ظاهرةً، مثلما تركت بقعاً بيضاء في الرخام الأسود لعملها «مدينة» (2001) المستوحى من كتابات إيتالو كالفينو.

هناك أيضاً العمل الذي أسس لربط تجربتها النحتية بالأمومة، وأنجزته عام 1969 بعنوان «أم/ أرض» بعد أربع سنوات من أول عمل نحتي لها نفّذته في باريس، وكان يحمل العنوان نفسه. ومن بين أجمل منحوتاتها المشغولة بالرخام الأصفر؛ سلسلة «بذرة» (2007). معظم أعمال السعودي سلسة ذات منحنيات صلبة في الوقت نفسه، ورغم سماكتها سوف نعثر فيها على فراغ أو فتحه أو دائرة تحتضن بيضة.

 

بذرة (2007)

 

الحرير والحرب والأصدقاء

قضت الراحلة كل سنوات الحرب في لبنان، في بيتها اللبناني التقليدي في حي الوردية ذي البوابة الصفراء والحديقة الصغيرة المكتظة بالنباتات والتماثيل. في تلك الفترة، أنجزت إلى جانب انغماسها في النحت بشكل كلّي، رسومات ذات طابع سياسي وإن غير مباشر. موضوعاتها كانت تمس الحرب الأهلية والقضية الفلسطينية. أسهمت أيضاً في رسم الملصقات لـ «منظمة التحرير». وفي عام 1979، نفّذت لوحة لدعم أطفال المخيمات بعنوان «الأرض تلد أطفالها».

أنجزت سلاسل من شاشات الحرير التي تقاطعت فيها مع أشعار محمود درويش وأدونيس، فاستلهمت من قصائد الأول سبع شاشات بعناوين «شجرة العاشق»، و«قصيدة الأرض»، و«تلك صورتها وهذا العاشق»، و«تحية لمحمود درويش». بدأت صداقتها بالشاعر الفلسطيني عبر المراسلات، عندما سمعت أنه غادر فلسطين للدراسة في موسكو عام 1970. فأرسلت إليه كتابها الذي يحتوي على رسومات أطفال فلسطينيين وأضافت إليها رسماً يتضمن سطوراً من قصيدته «يوميات جرح فلسطيني». وحين عاد إلى بيروت، وكانت وقتها ترسم بشكل منتظم لجريدة «النهار»، التقت به في مكتب الجريدة. خلال إقامته في بيروت حتى عام 1982، كان هو وأدونيس، من بين أصدقاء آخرين، يجتمعون في منزلها كل أسبوعين. تقول: «كانت لقاءاتنا غاية في الجمال، مليئة بالشعر وموسيقى أم ​كلثوم ومناقشات في مواضيع عامة». استوحت السعودي أيضاً من «رقيم البتراء»، قصيدة أدونيس، اثنتي عشر رسمة مطبوعة على شاشات الحرير.

معظم أعمالها سلسة ذات منحنيات صلبة في الوقت نفسه

 

يمكن اليوم أن ننظر إلى السعودي بوصفها نحاتة طليعية في التجربة العربية، وأن نقرأ فنّها أيضاً من حيث ارتباطه بكل الأحداث الحاسمة التي شهدها عالمنا في النصف الثاني من القرن العشرين. عملها مثّل مع أخريات، أبرزهن اللبنانية سلوى روضة شقير، نواة رمزية لفهم جديد للغة النحت ونهج جديد للعلاقة مع الفضاء، وتصوراً للتمثال الجديد وصلته بالإيقاع والحركة والهندسة المعمارية واللغة والشعر. لكن هذه الطليعية لم يجر الحديث عنها إلى اليوم. كل ما نحمله عن مساهمات نحاتاتنا في الفن العربي الحديث اليوم، هو فهم مجزأ ومبعثر، مثل صور أعمالهن وذاكرتهن غير المحفوظة التي نحاول جمعها عبر غوغل حين ترحل إحداهن.

 

* يوارى جثمان منى السعودي غداً السبت في عمان، بعد صلاة العصر، في مقبرة السعودي الخاصة في سحاب. وتقبل التعازي في بيروت اليوم من الساعة العاشرة حتى الثانية بعد الظهر في «دار الوردية» (مبنى دار المصوّر ـ خلف محطة الوردية ـ الحمرا)

 

سفر إلى اللامرئي

إلى جانب إنجازها رسومات مستلهمة من أعمال محمود درويش، وأدونيس وسان جون بيرس، أصدرت منى السعودي ديواني شعر هما «رؤيا أولى» (1970) و«محيط الحلم» (1993)، إلى جانب كتاب «أربعون عاماً في النحت» (2007). وقد وصفت في إحدى مقابلاتها بأنّ عمرها «اقتصر على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر».

--------------

جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / رحيل منى السعودي: المنحوتة الأخيرة

 

 

2022-02-18

دلالات: