الصورة عن الانترنت
جريدة صيدونيانيوز.نت / لذائذ الدنيا نماذج تُعرَض ولا تُقبَض
صيدونيا نيوز.نت / أقلام ومقالات/ لذائذ الدنيا نماذج تُعرَض ولا تُقبَض
بقلم : علي الطنطاوي
"إن لذائذ الدنيا نماذج تُعرَض ولا تُقبَض" [ فهي ] نماذج للعرض والإعلان لا للبيع والاقتناء، فأنت تُسَرّ برؤيتها ولكن لا تقدر على امتلاكها.
خذوا أكبر لذات الدنيا، اللذة المعروفة، تروا أنها ليست في الحقيقة إلا لحظة، دقيقة أو دقيقتين، لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها حتى تجد أنك قد فقدتها. إنها ليست إلا نموذجاً مصغَّراً للذة الآخرة، فما يستمر هنا دقيقة فقط يدوم هناك إلى الأبد. إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه في حلقه، فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع ... فالذواق في الدنيا والشبع في الآخرة.
لذلك ترى الرجل الفاسق يشكو الجوع الجنسي مهما ذاق من الحرام. يعرف مئة من النساء، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه كأنه ما عرف امرأة قط! ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده ولا تكلّ رغبته، فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.
ومثلها لذة المال. إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين ويأكل خبز الشعير، ويمشي بالحذاء البالي أو يركب عربة النقل التي يجرها الحمار، يتصور أنه لو نام يوماً على فراش الغني أو أكل على مائدته أو ركب في سيارته لنال اللذائذ كلها. ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة، بل يجد الألم إن فقد منه شيئاً. والشاب المغمور يتمنى أن يكون علماً مشهوراً تردد الإذاعات اسمه وتنشر الصحف رسمه ويتحدث الناس عنه، ولكن العالم المشهور الذي ألف ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه.
إن لذّات الدنيا مثل السراب. ألا تعرفون السراب؟ تراه من بعيد غديراً، فإذا جئته لم تجد إلا الصحراء، فهو ماء ولكن من بعيد!....
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها، فأرانا فيها كموكب من السيارات تمضي مجنونة مسرعة متسابقة، هَمُّ كل واحدة أن تسبق الأخرى وتخلفها وراءها. ولكن لو سألت سُوّاقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون لما وجدت عندهم جواباً.
سباق إلى المال، سباق إلى اللذات، سباق إلى الوظائف، سباق في كل طريق من طرق الحياة ... ثم ينتهي العمر، فنترك كل ما استبقنا إليه ونمضي. فلنقف لحظات في مطلع كل عام لنسائل أنفسنا: ما الذي نربحه من هذا السباق؟ أوَليس الربح الحق في جهة أخرى غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ويحسبون أن الربح المقصود فيها؟
المصدر : كتاب صور وخواطر / علي الطنطاوي / فصل : عام جديد / ص : 11-13