الصورة عن : ahmalassaf.com
جريدة صيدونيانيوز.نت / رمضان يحرّرنا أم نحرّره؟
صيدونيانيوز.نت/ من وحي رمضان/ رمضان يحرّرنا أم نحرّره؟
ما أعظم شهر رمضان حين نذكره، وما أجمله وهو يقترب، وما أكثر بركاته إذا حلّ؛ فتبدو الدّنيا خلاف التي نعرفها، وكأنّ النّاس ولدوا من جديد فخرجوا بغير الوجوه المنهكة من رهق ونصب، فياله من زمن كريم ثبت شرفه في القرآن العزيز، ووردت التّهنئة به في السّنة المشرّفة، وتسامت مكانته في وجدان الأمّة وأفرادها.
وها قد أتانا رمضان كي نتحرّر من سيطرة الشّياطين، ونكسر أغلال الدّنيا، فنحمي أركان ثقافتنا من محاولة اختراقها أو تحطيمها، فرمضان شرع رباني نقل لنا أحكامه وحِكمه النّبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام، ثمّ رواها أجيال من الصّحابة والتّابعين والعلماء، وسيظلّ في كلّ خلف عدول يحملون هذا الدّين ويذبّون عنه، ومن الوفاء أن ندافع عنهم، ونمزّق أراجيف المبطلين المنسوجة زورًا حولهم.
كما يحمينا رمضان من عجمة اللّغة وغربة التّاريخ، فهو اسم عربي خالص، نزل فيه كتاب عربي مجيد، وهو شهر عربي قمري، يحفظ لنا ارتباط الأحكام وشؤون الأمّة بهذا التّقويم، كما يجدّد لنا الذّاكرة بنزول الوحي وتتابع الآيات، ثمّ يعيد لنا الأمل بذكرى يوم الفرقان في بدر، وفتح مكة، والشّرط واضح: إن تنصروا الله ينصركم، وما ارتباط رمضان الوثيق مع القرآن إلّا لتجديد صلة المسلمين بكتاب ربّهم؛ ففيه الفلاح والنّجاة لمن تدبّر وعمل به، بعد فهم خطابه وأمثاله.
وفي رمضان تحرير للعقيدة من أوشاب الرّياء وأثقال الشّك، وتعظيم لشأن الغيب، وفيه عون على إقامة الصّلاة كما أرادها الله، وتنمية للمال بالزّكاة التي ترتقي بالغني، وتعين الفقير، وتوثق عرى المجتمع؛ فتحرّره من التفكّك والأنانيّة. وفيه مراجعة لمسيرة التّاريخ، وتنشيط للذّاكرة، وفيه ومضات، ونفحات، ولحظات يُساق في تحصيل أمثالها أنفس الأموال؛ لأنّ ثمرتها الانعتاق من العلائق الضّارة أو الزّائدة.
أمّا تحرير الفطرة فشأن رمضاني أصيل؛ إذ تتسامى الرّوح، ويصفو العقل، ويرتاح الجسد، فيعود للفطرة أصلها الصّائب، وللقلب سلامته، وللنّفس إشراقتها التي خفتت في كهوف الحياة، وللعقل تركيزه واختصاصه، وللجسد صحته واستقامته، وللرّوح مكانتها التي تاهت بجنايات المادّة؛ وما أعظم قيمة الإنسان ساعتئذ، وذلكم شعور فريد لا ندرك فقده ونفاسته إلّا إذا وجدناه.
كما يتحرّر عباد الله في رمضان من تسلّط مردة الجنّ وإفكهم وما يفترون، ثمّ يتحرّر المسلم من أيّ طاعة لغير الله، فيأنف من المخالفات إرضاء للبشر أو انسياقًا مع الهوى أو رضوخًا للضّغط، فيملك زمام أمره وخطامه، ويسترجع وضعه الصّحيح بعد أن خاض في مباهج الحياة وأوصابها، وضعف إدراكه لحقيقتها، ونسي مقتضيات العهد المأخوذ عليه من خالقه سبحانه.
ويحرّرنا رمضان من فوضى الحياة بترتيب الأولويات، واستعادة التّوازن، ويعيد للفرد مكانته في سياق اجتماعي تواصلي متراحم متكاتف، فالواحد يعبّر عن أمّة، والأمّة على قلب إنسان واحد، وكما يرجع العبد لمولاه وينفرد بربه، تؤوب الأمّة لخالقها، ويتشارك الواحد مع المجموع في ابتغاء الرّحمة، والفوز بالعتق، والخروج من الظّلام إلى النور، ويُفترض أن تسعى الأمّة لتجاوز صحراء تيهها الطّويل، وتبعث مفاهيم التّضامن والتّآزر منطلقة من جماعيّة الإفطار والصّلاة والسّحور.
أيضًا تحرّر معاني رمضان أفراد المجتمع من وباء الرّأسماليّة المتوحشة، ومن غثاء الإعلام البشع، فغاية الوجود ليست لهوًا ولا بيعًا أو شراء، وقيمة العمل ترتفع إذا أصبح ثمنه الفوز برضى الرّحمن، أو موضعًا في جنان عدن. ومن مفردات الاستغناء عن أغلال الاقتصاد الخانق، وركام الإعلام المخزي، كبح جماح شهوات النّفس، ومنعها عمّا تجد مندوحة عنه، وهذا ما يجعله الصّيام أمرًا مقدورًا عليه بعد أن ظنّناه عسيرًا، فهل نهتبل السّانحة الرّمضانية وننجو من هذا الوحل؟
ومن تحرير رمضان لنا مساعدتنا على هجر الإلف والعادة، وكسر وتيرة الحياة، وإنقاذ أنفسنا من شهوة الانتقام وسلطة الغضب، فيعمّ التّصالح، وتنتشر ثقافة العفو والمسامحة، ونتعالى فوق عزّة النّفس الآثمة المانعة من الخير والأوبة والرّشد، ونبرز أخلاقنا الحقيقيّة المتوافقة مع أصل ديننا، وكريم محتدنا، وشيم مجتمعنا بعروبته وإسلامه وقيمه.
أخيرًا فإنّ رمضان يحرّرنا من سطوة الشّعارات، ويحمينا من اختزال المعاني الكبيرة إلى مظاهر صغيرة، ويوقظ إحساسنا بالفاضل والأفضل، وهو موسم تزدحم فيه الفرص لإصلاح الذّات فما بعدها، وعجبًا لنا كيف نضيع هذه الفرصة؟ والعجب أعجب حين نضيف للتّفريط بها تسليم مفاتحها لمن لا يرجو الله واليوم الآخر، ولا يرقب فينا إلّاً ولا ذمّة، فهذا الشّهر الذي يحرّرنا بفيوضه ونسائمه ومعانيه: متى نحرّره من السّياج المضروب عليه، ومن قبضة من لا يرفع به رأسًا إلّا لمآرب مناقضة لمقاصد رمضان الذي أتانا ليحرّرنا؟