الصورة عن الجزيرة.نت
جريدة صيدونيانيوز.نت / تآكل الروابط الاجتماعية جراء التبعية العاطفية المعززة بشات جي بي تي
صيدونيانيوز.نت/ أقلام ومقالات/
تآكل الروابط الاجتماعية جراء التبعية العاطفية المعززة بشات جي بي تي
أخذ الذكاء الاصطناعي جزءًا كبيرًا في أنماط الحياة اليومية، فبعد أن كان التحدث مع الآلة وإجراء حوار متكامل معها مقتصرًا على أفلام الخيال العلمي أو المعامل المخصصة للروبوتات الذكية، والتي لا يستطيع الجميع الوصول إليها، بات الأمر في متناول الجميع دون استثناء.
مع أدوات مثل شات "جي بي تي"، يمكن إنشاء مناقشات في جميع المجالات، حتى تلك الشخصية التي كنا نخوضها مع أقراننا أصبحت تدار مع أداة رقمية، ومن هنا بدأ الأمر يأخذ منعطفًا آخر يتعلق باستبدالنا بالحياة الواقعية حياةً افتراضية، بدءًا بأن تحل محل الأسرة والأصدقاء أداة شات "جي بي تي" للاستشارات المتعلقة بالمجال العلمي والعملي ووصولًا إلى الشخصي.
في الحقيقة، جميع التغيرات تحدث تدريجيًا، وكسر الأنماط المعتادة في أي مجتمع يحتاج الكثير من الوقت، إلا أنه في السنوات الأخيرة كان لأدوات المحادثة المدعمة بالذكاء الاصطناعي رأي آخر؛ حيث أخذت تنتشر بسرعة، وتُحدث تغييرًا في أنماط سلوكية بين الفئات العمرية المختلفة في المجتمع البشري، وتحديدًا فئة الشباب.
مع إحلال الرابطة الرقمية الافتراضية محل الروابط الاجتماعية: ما الذي يجعل ChatGPT قرينًا موثوقًا به عوضًا عن الأسرة والمجتمع؟
ينشأ الشباب في فترة تطور سريعة بفضل المساعدة في التحسينات التكنولوجية المستمرة، وبينما يطغى التواصل الرقمي على التفاعلات الاجتماعية التقليدية في كثير من الأحيان يلجأ كثير من الشباب إلى منصات الذكاء الاصطناعي مثل شات "جي بي تي".
كان الأمر في البداية من أجل تأدية المهام المدرسية أو الجامعية، أو الوصول للمعلومات بسهولة وسرعة أكبر، عوضًا عن قضاء ساعات في البحث والتقصي عن المعلومات في المواقع والمقالات أو الأبحاث. فوفقًا لما نشره مركز "بيو" للبحث، يستخدم حوالي 1 من كل 5 مراهقين في الولايات المتحدة شات "جي بي تي" في أداء واجباتهم المدرسية.
وبعد أن استطاعت أدوات الذكاء الاصطناعي تلبية حاجات الطلاب، وتقصير المسافة بينهم وبين إتمام المهام، نجحت في الرواج والانتشار على نطاقات أكبر وبشكل مستمر حتى يومنا هذا. ولكن هذه الأدوات لم تتوقف عند هذا الحد في تأدية المهام؛ فلأسباب اجتماعية ودعائية، منحت شريحة كبيرة من الشباب اهتمامها وثقتها لأدوات المحادثة المدعمة بالذكاء الاصطناعي.
ويمكن فهم هذه الظاهرة من خلال عدسة الوحدة والبحث عن التواصل؛ فعندما ينتقل الشباب عبر تعقيدات الطفولة، غالبًا ما يشعرون بالعزلة أو سوء الفهم، وفي مثل هذه اللحظات يمكن أن يكون شات "جي بي تي" بمثابة لوحة رقمية غير قضائية، ما يوفر مساحة لنسبة الأفكار والمخاوف والمراجعات دون قلق.
في نظري، أجد هذه الصداقة الرقمية ليست مصنوعة من الراحة، بل إنها – ولأسباب عدة – نتاج لتفاقم عدم القدرة على تكوين روابط حقيقية مع الأسرة والمجتمع. وبرغم أن سارة ما زالت تدرك أن حديثها كان مع آلة ذات ردود معدة مسبقًا، فإنني أشعر بالقلق، وأنها لن تستمر في اعتقاد ذلك لفترة طويلة، فاستمرار تأزم وضعها النفسي والاجتماعي سيكون سببًا كافيًا لاستمرارها في اعتماد الأحاديث الافتراضية وبشكل مفرط، ما سيجعلها في النهاية تغير رأيها في أن تلك الردود آلية ولا يمكن الاعتماد عليها.
ويزداد الوضع سوءًا كلما ارتفع عدد الشباب الذين يتشاركون في حياتهم الشخصية وحالاتهم العاطفية مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وهذه الرابطة المتنامية بينهم وبين الذكاء الاصطناعي تثير قلقي باستمرار بشأن قدرة تلك العلاقات على الانتقاص من العلاقات الاجتماعية في الحياة الواقعية.
فقد يمنح المراهقون الأولوية لصداقات الذكاء الاصطناعي على الاتصالات البشرية، وذلك يؤكد ما أشار إليه جان توينج، عالم النفس ومؤلف كتاب "iGen" بأن "الاعتماد المفرط على التكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك روبوتات الدردشة المدعمة بالذكاء الاصطناعي، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية".
شخصيًا، كنت كذلك ممن استخدموا شات "جي بي تي" في تحليل الملفات وتلخيصها، ولكني في كل مرة كنت أطلب فيها من شات "جي بي تي" إبداء رأيه وتحليله حول موضوع ما، أجد من السهل علي تغيير رأيه السابق عن طريق إضافة رأيي المتضمن لاحتمالات أخرى.
وكمثال على ذلك، في إحدى المرات، عندما أرفقت مقالًا لي وطلبت من شات "جي بي تي" ذكر عيوب مقالي، منحني بعض أوجه القصور، ولكن عندما علّلت بعض تلك النقاط التي ذكرها سرعان ما قام بموافقتي الرأي، ما جعله يغير رأيه السابق.. لقد تكرر ذلك مرارًا.
كان المقال اجتماعيًا وفلسفيًا، ولم يكن بمقدور الأداة الرقمية فهم أبعاد المقال جميعها والتأكيد على رأي ثابت.. استذكرت حينها رأي الفيلسوف الشهير نعوم تشومسكي، الذي أكد أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الفهم الأخلاقي أو التعاطف أو الإحساس الحقيقي بالتجربة الإنسانية، ما يجعل من الخطر استبدال استجابات الذكاء الاصطناعي في الأمور الأخلاقية والعاطفية بالتفاعل البشري.
ففي دراسة نشرتها المكتبة الوطنية للطب، التابعة للحكومة الأميركية، أشارت فيها أنه "نظرًا لافتقار شات "جي بي تي" إلى قدرات التحقق من الحقائق في الوقت الفعلي، قد تنتج معلومات مضللة أو خاطئة.
ونظرًا لأن تقنية الذكاء الاصطناعي لديها القدرة على التأثير في تفكير الشخص، فإننا نتوقع التداعيات المستقبلية على الصحة العقلية لـشات "جي بي تي"، من خلال النظر في الحالات التي قد يؤدي فيها الاستخدام غير المناسب إلى اضطرابات عقلية".
الخوض في محادثات شخصية مع شات "جي بي تي" يحتّم صنع سجل من المعلومات الحساسة، التي لا شك أنها ستشكل خطرًا على الفرد. ومع أن ذلك يعد سببًا كافيًا لدراسة حلول هذه المشكلة، فإن الخطورة لا تتوقف عند هذا الحد.
ففي منظوري الذي آمل إيصاله، إن مشكلة الأمن والخصوصية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي قد تؤخذ بعين اعتبار الخبراء المتخصصين، بينما الآثار النفسية والاجتماعية التي تتبع ظاهرة الذكاء الاصطناعي – وتحديدًا روابط الدردشات مع ChatGPT عند الشباب – حتى وإن تم تصنيفها كأحد مخاطر الذكاء الاصطناعي، فإنها لم تحصل على الاهتمام اللازم الذي يجعل المختصين يبدؤون بدراسة الحلول، بالرغم من أنها ظاهرة مستمرة وسريعة الانتشار، وتمتلك القدرة الكافية على تغيير أنماط السلوك والتعامل والتفكير لأهم شريحة في المجتمع، التي هي فئة الشباب.
آسيا الحمادي/ باحثة وكاتبة