محطات في الذكرى السابعة عشر لرحيل الدكتور نزيه البزري( صيدونيانيوز.نت )
جريدة صيدونيانيوز.نت / محطات في الذكرى السابعة عشر لرحيل الدكتور نزيه البزري
محطات في الذكرى السابعة عشر لرحيل الدكتور نزيه البزري
بقلم محمود سروجي
بعد عمرٍ مديدٍ بالتضحية والعطاء، وفي ختام مسيرةٍ إنسانيةٍ مضيئة طوى الطبيب الطيب آخر صفحات حياته ليلقى وجه ربه بقلبٍ مؤمنٍ وبضميرٍ نقيٍ وطاهر، لتبقى صورته ناصعة كمثل وجهه الوضّاح، وليبقى صداه بقوة صوته الدافئ. في مثل هذا اليوم منذ سبعة عشر عاماً رحل نزيه البزري الى جوار ربه، ورغم أنه فارق الحياة نتيجةً لأزمةٍ قلبية فلا بدّ من هذه الخاطرة الانسانية التي تُكرّس حقيقة أن وفاة الدكتور نزيه البزري في 11 تشرين الأول تأتي في المنتصف ما بين 15 أيلول و14 تشرين.
ففي الخامس عشر من شهر أيلول 1987 زرع غربان الشر والتآمر من عملاء اسرائيل عبوة موت وتدمير في منزل الدكتور نزيه البزري بهدف اغتيال الانسان وتدمير المكان، انفجرت العبوة، خسر الموت جولته، وغاب وجهه الأسود، وسقطت المؤامرة لينهض الحكيم وتنتصر الحياة بوجهها الأبيض الطاهر كطائر الفينيق السرمدي ليشرق وجه الحكيم كإشراقة صباحٍ في رؤيا سريالية حقيقية لا يدرك كنهها إلاّ من شهد هذه اللحظات وكنت أنا من شهد هذه اللحظة الخالدة.
فشلت المحاولة الغادرة كما فشلت التي سبقتها يوم استهدف منزله وغرفة نومه تحديداً بصاروخ أصاب الجدار الخارجي وأحدث ضرراً هائلاً في 13 كانون الثاني 1986، وأعادت اسرائيل المحاولة ثانية حيث حاول غربان الشر والتآمر أنفسهم اغتياله في سريره في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت فسقط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى في 14 تشرين الثاني 1987 أي بعد شهرين من المحاولة الأولى.
نعم وبكل تواضعٍ هذه ذاكرة التاريخ تشهد على ذلك وكل ذلك باء بالفشل بفضل الرعاية الالهية ودعاء المخلصين الطيبين من أهل المدينة والوطن. وأنا على يقينٍ بأن اسرائيل لم تُدرك أن العين المؤمنة والصامدة يمكن لها أن تقاوم مخرز القهر والعدوان وهكذا تكسرت النصال على النصال ليتابع الدكتور نزيه نهجه النضالي كنهر عظيم منبعه الوطني غزير العطاء ومصبه الواضح والجلي باتجاه التحرير والانتصار.
هي قصة هذا الرجل المؤمن بربه، بوطنه وبالإنسان، إنها مقاومة الموقف الوطني المشبع بالصمود والثبات والتضحية وصولاً الى تخوم الشهادة وهذا ما كاد أن يكون مآل هذا الدكتور الوطني والذي أجاد في اعتماد أبجدية صلبة وواضحة في تحديد الأولويات والتناقضات في النضال الوطني فكانت رؤياه المحقة في مقارعة العدو الصهيوني تعلو فوق اي اعتبار لذلك انبرى يرسم وينفذ خطه العام باتجاه ارض الجنوب أي شمال فلسطين، ولا ريب أن اسرائيل ومن معها من عملاء قد أدركوا قوة هذا الموقف كعامل جذبٍ نضاليٍ مقاوم فكانت المحاولات الغادرة لوأد هذه الجذوة في مهدها.. فأصبح الحكيم كالترس في بعض المواقف وكالرمح في مواقف أخرى لتغدو مسيرته الوطنية نبراساً مضيئاً في ذاكرة المدينة والوطن.
للدكتور نزيه البزري نقول: صحيح أنك عُرفت بإنسانيتك في مهنتك، ونزاهتك في مسؤوليتك السياسية، وجهودك المضنية في خدمة مدينتك وأهلها، ورجاحتك وحكمتك في أحلك الأوقات لمنع الانقسام والفتنة، ولكنك أيضاً عُرفت بصلابتك في الدفاع عن وطنك وعروبته والقضية الفلسطينية، وجُرأتك في التصدي للمحتل الاسرائيلي وعملائه، وليس من الصدفة أن يُطلق عليك العديد من الصفات: طبيب الفقراء، حكيم صيدا والطبيب المقاوم.
قد يتساءل العديد أيُعقل أن يتعرض من أفنى حياته في خدمة الناس ونشر المحبة بينهم، وتسوية خلافاتهم بحكمته المعهودة، وخدمة وطنه في سدة المسؤولية وخارجها للعديد من المحاولات الهادفة لاغتياله وترهيبه وأذيته، والجواب المنطقي والواضح أن العدو الاسرائيلي وعملائه لا تروقهم شخصية ومسيرة نزيه البزري لأنها تعكس حقيقة جوهر المواطن العربي القادر على مواجهة المحتل والخصم بأسلوب حضاري وإنساني راقٍ وبجلادة المؤمن وشجاعة صاحب الحق.
أيها الجليل ستظل اشراقات حياتك ومواقفك الوطنية النبيلة والجامعة شواهد مضيئة تنير درب من سيحمل الرسالة والمشعل من بعدك. دكتور نزيه البزري في ختام هذه اللحظة التاريخية وبعد انقضاء أربعون عاماً على فشل الظلمة في طمس نورك الساطع، ألف سلام لروحك الطاهرة، وها أنا أهمس فوق أثير ذكراك أنني كغيري من أهل هذه المدينة نقف دائماً أمام خيارين: فإما أن نُحبك... وإما أن نُحبك أكثر.
بقلم محمود سروجي
----------------------
بقلم هيثم زعتير
عندما يرحل الكبار تبقى ذكراهم العطرة تعبق برائحتها كما زهر الليمون في "عاصمة الجنوب"، وتشهد على مواقفهم التاريخية الراسخة كما قلعة صيدا البحرية الشامخة.
هكذا هو الوزير والنائب الراحل الدكتور نزيه عبد الرحمن البزري، الذي رحل قبل 17 عاماً (11 تشرين الأوّل 2000).
كل من عرف الراحل أو سمع عنه، حتى وإن باعدت بينهم السياسة واختلفوا بشأن قضايا وملفات، يُقرّ ويعترف بدماثة أخلاقه، ونظافة كفه، ونزاهته، وشفافيته، وسعة علمه، وحكمته، ومواقفه الجريئة في اللحظات الصعبة والحرجة، أمام أي كان.
أمن بالعيش الواحد في لبنان بين جميع بنيه وطوائفه ومناطقه، وبالانتماء إلى عمقه العربي والدفاع عن قضاياها، وفي الطليعة قضية فلسطين.
لم تغيره المواقع التي تبوأها لسنوات عديدة، بعد أن كان رئيساً لبلدية صيدا، ثم نائباً عنها إعتباراً ولدورات عدة، وصولاً حتى العام 1992، أو وزيراً في 8 حقائب توزعت بين الصحة، والاقتصاد والتجارة، والعمل والشؤون الاجتماعية، وللدولة، فساهم بالنهوض بهذه الوزارات، وبث الحيوية في شرايينها، وترك بصمات مميزة.
مسيرة استحق فيها ألقاباً عدّة "الريس"، وصاحب السعادة والمعالي، لكنه اتصف بأنه "طبيب الفقراء" ووصف بـ"الحكيم النزيه"، وإن كان أحب الألقاب إليه الدكتور نزيه، فهو لقب ناله بكد وتعب في الجامعة، وكان صلة وصله بالناس دون تفرقة في الجنسية أو المذهب والمنطقة، أو في مريض لم يؤازره سياسياً، بل كان من صقور فريق خصومه السياسيين.
كانت سماعة الدكتور نزيه في الطب كما في السياسة، دقيقة تشخص وتحدد الداء قبل وصف الدواء، في مسيرة عقود من الزمن، فكانت له بصمات متعددة ومواقف في لحظات الشدة خاصة:
- لحظة اغتيال الشهيد معروف سعد (26 شباط 1975)، حيث كان يسير الزعيمان الصيداويان (المتنافسان انتخابياً) جنباً إلى جنب في تظاهرة تطالب بحقوق الصيادين.
- إثر الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، كان الدكتور نزيه وزيراً للصحة في عهد الرئيس إلياس سركيس، فترك بيروت وعاد إلى مدينته ليكفكف جراح أهله.
وكانت له مع مفتي صيدا والجنوب الراحل الشيخ محمّد سليم جلال الدين، مواقف في التصدّي للإحتلال، ورفض استقبال الحاكم العسكري الإسرائيلي في منزله الذي تذرع بالعيد لتقديم التهاني، فأبلغه من على باب دارته برفض المعايدة والزيارة، مخاطباً إياه: "عيدنا سيكون يوم خروجكم من أرضنا".
- رفض "الحكيم" انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في العام 1982.
- بعد تحرير صيدا من الإحتلال الإسرائيلي (16 شباط 1985) وما سبقها من محاولة اغتيال رئيس "التنظيم الشعبي الناصري" المهندس مصطفى سعد وما تلاها من أحداث شرق صيدا، كان لـ"الحكيم" مع فاعليات المدينة دور هام لتجنيبها اقتتالاً داخلياً، فترأس اجتماعات "المجلس السياسي لمدينة صيدا".
- لعب دوراً بارزاً في اجتماعات الطائف وصياغة ما عُرف بـ"اتفاق الطائف" الذي صدر بتاريخ (30 أيلول 1989) وتحول إلى "وثيقة الوفاق الوطني" التي أقرها مجلس النواب (22 تشرين الأوّل 1989).
- ربطت "الحكيم" علاقة مميزة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان يكنّ له مكانة خاصة، ويحرص على التواصل الدائم معه، فهو وصية الوالدة الحاجة هند حجازي.
- امتاز الدكتور نزيه بعلاقته بسوريا والرئيس حافظ الأسد، وطُرح اسمه لرئاسة الحكومة أكثر من مرّة كان بينها بين الرئيس الأسد والرئيس المنتخب رينيه معوض قبل اغتياله (22 تشرين الثاني 1989)، ومن ثم مع انتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية (25 تشرين الثاني 1989)، وتولى الرئيس الدكتور سليم الحص تشكيل الحكومة، قبل أن يقدم استقالته (24 كانون الأوّل 1990)، حيث طرح اسم "الحكيم" لرئاسة الحكومة، لكن كان حينها قد أجرى عملية بالغة الدقة في الولايات المتحدة الأميركية، فأرسلت القيادة السورية مستفسرة عن مدة العلاج والراحة، التي كانت تحتاج لأشهر عدة، فتم تكليف الرئيس عمر كرامي تشكيل الحكومة التي أسقطت (6 أيّار 1991).
نجا الحكيم من محاولات اغتيال واستهداف عدّة مع شريكة العمر ثريا الجوهري "إم العبد" لأنه كان "بيضة قبان" في اللحظات الصعبة، ويشكل حلقة وصل بين أكثر من تكتل على الساحة اللبنانية، من خلال تجربته الطويلة وعلاقاته، فكان إذا ما تحدث ينصت الحاضرون إلى كلامه.
وكان يمتلك كنزاً كبيراً من المعلومات، وكثيراً ما كان لـ"اللـواء" محطات خاصة مع "الحكيم" يتحدث فيها في نظرة استشرافية، مزودة بمعلومات عن أحداث قبل حصولها.
وكانت مباركة الدكتور نزيه في صدور العدد الأوّل من منها في "لواء صيدا والجنوب" (8 أيّار 1991)، وفي الكثير من الأحاديث والحوار والمقالات والملفات.
في الانتخابات النيابية التي جرت في أيلول 1992، أعلن عزوفه عن الترشح مفسحاً المجال أمام نجله الدكتور عبد الرحمن ليتابع المسيرة، لكن الحظ لم يحالفه.
كانت أمنية الدكتور نزيه البزري أن يرى لبنان محرراً موحداً معافى بجهود أبنائه، وهو ما خاطب به الحضور خلال حفل التكريم الذي أقامته "لجنة إحياء ذكرى تحرير صيدا" و"اللجنة الوطنية لإحياء ذكرى 14 آذار و18 نيسان" برعاية وحضور رئيس مجلس النواب نبيه برّي والأمين العام المساعد لـ"حزب البعث العربي الاشتراكي" عبدالله الأحمر ومبادرة من النائب بهية الحريري (11 آذار 2000).
وبعدها بحوالى 10 أسابيع، وتحديداً ليل 24 أيّار من العام ذاته كان الدكتور نزيه يجلس في منزله ويتابع التلفزيون لتلقف أخبار النصر بتحرير الجنوب والبقاع الغربي من رجس الإحتلال الإسرائيلي.
إغرورقت عيناه بالدموع قائلاً: "الحمدلله، أصبح الحلم حقيقة والبلد يعيش أعراس النصر، فصدقوني إذا قلت أنني اليوم عريس في هذا الوطن، فإذا ما رحلت في غدٍ، سأرحل قرير العين، مطمئن القلب، مرفوع الهامة".
وبعد 4 أشهر ونيف، أغمض الدكتور نزيه عينيه، مطمئناً إلى تحقيق النصر، بعد أيام قليلة من اندلاع "انتفاضة الأقصى" المباركة متيقناً أن الشعب الفلسطيني مصمم على تحرير أرضه والعودة إليها وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
في ذكرى رحيله لا بدّ أن تقرأ الأجيال القادمة، كلاماً في أبجدية العظماء، ومنهم الدكتور نزيه البزري، الذي أطلق الكثيرون من الآباء اسمه على أبنائهم تيمناً وحباً به.