جريدة صيدونيانيوز.نت / أبكتني الشكولاتة

صيدونيانيوز.نت /أقلام ومقالات /أبكتني الشكولاتة​
صَعدتُ الحافلةَ العموميةَ أخيرا بعدما فقدتُ الأملَ في قدومِها، بعد يوم جد متعب، هذه المرة الأولى لحسنِ حظي أجد مقعدا. فعلاقتي بالحافلةِ علاقة فريدة من نوعِها. إن تأخرتُ أنا، أبكرت هي وإن أبكرت أنا، فعلت هي العكس، وجعلتنا جميعا ننتظرها ونتمنى قدومها كما ينتظر الطفل الصغير العيد. بعدما جلستُ وحمدتُ الله على ضفري بمقعد وهذه النعمة لا يعرفها إلا ركاب الحافلات العمومية. وقعَ بصري على ورقة تحت حذائي، أخذتٌها وقررت الاحتفاظ بها، وبعد نزولي سألقي بها في الحاوية مكانها المناسب.

   

لم يستدعني فضولي لقراءة ما كتب فيها، ولكن لفتت انتباهي كلمتان في أعلى الورقة كعنوان: أبكتني الشكولاتة، استغربت من العبارة وتمكنت هذه الأخيرة من إشعال فضولي الذي جعلني أقرأ ما كتب. لأن الشكولاتة في العادة لا تبكي، فهي معشوقة الفتيات وعلاقتها جيدة مع الجميع كبارا وصغارا. فهل قررت الشكولاتة أن تقسى علينا كما يفعل الجميع وتبكينا؟
    
محتوى الورقة كان فضفضة لفتاة كتب فيها: يومي كان جميلا، فقد زرت صديقتي العائدة من فرنسا. فرحت جدا برؤيتها، هي صديقتي الوحيدة التي تؤنسني في غربتي عن أهلي. فنحن ندرس معا، أساعدها على فهم الدروس، نضحك معا، هي من عائلة غنية ولم تشعرني يوما باختلافنا أو بفقري. حدثتني عن جمالِ باريس، قدمت لي علبة شكولاتة كهدية، أفرحتني جدا هديتها. هي تعرف حبي للشكولاتة فلقد أحسنت اختيارها.

  
قطع حوارنا اتصال أبي فاستأذنت منها ومن صديقاتها اللاتي أتين لرؤيتها. كان اتصاله جميل فلقد سافر بي لقريتنا الصغيرة ولمنزلنا الجميل. ما أجمل هذا الاتصال وما أروعه، ففي بعدنا عن أهالينا أكثر ما نحتاج هو اتصال هاتفي من العائلة أو من صديق يخفف عنا شيئا من غربتنا. أكملتُ اتصالي بأبي الذي طلبتُ منه أن يبلغ سلامي لأمي ولأخوتي، ويا ليت اتصالي استمر لبضعِ دقائق فقط ويا ليتني لم أسمع ما دارَ بين صديقتي وصديقتها. لقد كانت كلماتها وضحكاتهم بمثابة شحنة كهربائية، وكانت خيبتي أقوى من ذلك بكثير، أحسست برغبة شديدة في البكاء ولكنني استرجعت أنفاسي، أخذ عقلي يجتر عباراتهما التي أبكت قلبي: لما اشتريت لها شكولاتة غير التي اشتريتها لنا، لأنها ليست مثلكن و حتى أنها لا تفرق بين أغلاها وأرخصها، فلكل شخص هدية بقيمته.

  

أبى عقلي أن يتناسى ولو للحظة سموم كلماتهم، تماسكت نفسي وحاولت إخفاء صدمتي عنهن، استأذنت منها بعد أن شكرتها مجددا وقررت مغادرة بيتها بأسرعِ ما يمكن، ولكي لا تكشف دموعي أمري. كنت أمشي بخطى حزينة كالمحاربِ العائدِ من حرب خاسرة، وقد أخذت مني الصدمة مأخذها، تذوقتُ ملوحة دمعي، أخذتني قدماي إلى ما لا أعلم، ماذا لو لم أستمع لكلماتهم، لكنت الآن فرحة ومسرورة بهديتها، أنا لم أنتظر هديتها بقدر شوقي لرؤيتها، كيف لهدية أفرحتني أن تبكيني؟

  

رمت بي كلماتها في مستنقعِ الحياة وكانت بمثابة الصفعةِ التي أفاقتني من مثاليتي، هذه الحياة وهذا واقعنا، نحن أمة ترى فقط، أمة مظاهر ولكننا لا نبصر، نحن نبصر ما نريد إبصاره فقط. لم أحاول منع دموعي، ربما كنت في أمس الحاجة لهذه الصفعة، لعلني أستفيق فلأبكي وأنسى، لن أحاول تجاهل وجعي، فأغلب أمراضنا سببها إخفاء أوجاعنا، سببها تظاهرنا بالقوة، سببها الكبت، كبت خيباتنا و انتكاساتنا، كبت تجاربنا الفاشلة، فكفانا كبتا لأوجاعنا وآلامنا، بكاؤنا ليس ضعفا بقدر كونه علاجا، فلا بأس بدموع تليها ضحكات وراحة، فليحمِ كل منا قلبه، إياك أن تؤذي نفسك، فلا حاجة لنا بعلاقات كثيرة الوجعِ، العلاقات جعلت كي نسعد وإلا فانعدامها أفضل.

 

لا بأس صديقتي لتشبيهك لي بالشوكولاتة، فالشكولاتة لا تفقد حلاوتها برخص ثمنها. فالشكولاتة شوكولاتة وأنا هي أنا وأعلم من أكون، لا أحد يقدر على هزيمتي، أعلم نقاط ضعفي وهي التي جعلتني ما أنا عليه الآن. علمني ضعفي وفقري الذي به تستهزئين كيف لا أنحني، كيف أكافح، كيف أسقط وأنهض، كيف أحافظ على نفس عزيمتي ولو حتى أجبرتني الحياة على الانحناء والتراجع، فأنا لا أنكسر، لا أتراجع ولا أنهزم. فسر نجاحي هو رضائي وإيماني بخالقي وبنفسي.

     

" لا تضيفوا روحا لكلماتكم، فأنتم تنطقون بها وغيركم تعيش معه تلك الكلمات ولن تفارقه، فالكلمة الجارحة تصبح عدوا لمن وجهت له"

بينما أنا تائهة في نفسي، إذ بي ألمح ملاكا تقترب مني، أجبرها واقعها رغم صغر سنها على التسول، طلبت مني شيئا، بحثت في حقيبتي لم أجد سوى كتاب وهي ليست بحاجة له في عمرها هذا، وعلبة الشوكولاتة فهي أغلى ما أملك حالا. أهديتها إياها و قد لاَمستُ فرحتها بها، وقد أهدتني ابتسامة أفرحتني. فالشوكولاتة عينها أبكتني وأضحكتها وشتان بين الابتسامة والدمعة، بين الحزن والفرح، بين الخير والشر. ويظل الفرق هو طريقة كلامك، فأنت تضيف القيمة للهدية و أسلوبك يصنع الفرق. العطاء فن لا يجيده إلا القليل، العطاء هو حب قبل أن يكون مالا أو هدايا، فالشيء الذي أعطي بحب يُحب ويلمس القلب، فلتجعلْ الجميع يتشبع من حبك، فأنا وأنت والجميع نملك الكثير لنعطي.

      

وما يجعل الهدية مميزة هو عطاؤها بكل حب، وأن كيفية العطاء تساوي أحيانا أكثر من العطاء نفسه، قد تكون ابتسامتك في وجه يتيم أجمل وأغلى هدية، قد يكون تنازلك عن مقعدك لعجوز في حافلة هو أحلى هدية، لعل عيادتك لمريض أحلى هدية، فالهدية قد تكون كلمة طيبة، قد تكون اتصالا، قد تكون نصيحة، قد تكون دعاء، قد تكون فقط إنصاتا، قد تكون ابتسامة لطيفة أو تحية خالصة من القلب لمن نقابلهم في الشارع، أما هديتي اليوم فهي خيبة بنكهة الشوكولاتة.

     

أكملتُ قراءة رسالتها وقد كانت حقا أجمل هدية أهداها لي القدر اليوم، العطاء هو فن وما أجمله من فن، الحب موسيقاه والابتسامة لحنه، والكلمة الطيبة هي ما يجعله فنا راقيا. فاختيار كلماتك هو الذي يجعلك أجمل فنان، نحن بقدر قوتنا ضعفاء والإنسان خلق ضعيفا، كلمة تضحكنا وأخرى تبكينا، كلمة تحلق بنا عاليا وأخرى ترمي بنا دون رحمة، ونعم الشخص الذي يحسن اختيار كلماته. لا تضيفوا روحا لكلماتكم، فأنتم تنطقون بها وغيركم تعيش معه تلك الكلمات ولن تفارقه، فالكلمة الجارحة تصبح عدوا لمن وجهت له، أرجوكم لا تنطقوا أشخاصا، لا تنطقوا أعداء، لا تنطقوا أمراضا، لا تنطقوا أكاذيب، لا تنطقوا عقدا، لا تنطقوا شرا، فلننطق حبا، أملا ، جمالا و خيرا، فنحن أمة الكلمة الطيبة صدقة، قال صلى الله عليه وسلم: "وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"، متفق عليه، فلننطق صدقات.

المصدر : مدونات الجزيرة / الكاتبة سوسن مقادلة

 

2018-02-01