الرئيسية / المرأة والمجتمع /أقلام ومقالات /توحيد الله في رسالة نوح عليه السلام

جريدة صيدونيانيوز.نت / توحيد الله في رسالة نوح عليه السلام

صيدونيانيوز.نت/ أقلام ومقالات / حديث الجمعة / 

توحيد الله في رسالة نوح عليه السلام

 

حينما انحرفت الإنسانية في عقيدتها، شاءت رحمة الله أن يرسل نوحاً عليه السلام مبشراً بالحق في مجال العقيدة، وبالخير في مجال الأخلاق، وبالعدل في مجال التشريع.

وتضعنا النصوص الصحيحة والأخبار أمام نوح - عليه السلام - وهو رجل ناضج، ومكتمل، أرسله الله لهداية قومه، وأما طفولته وشبابه وكل ما كان قبل الرسالة فليس لنا به علم، ولكن الله سبحانه وتعالى له سنن خاصة بمن بعثهم أنبياء ورسلاً ، وذلك أن الله سبحانه يختارهم من ناحية النسب من أشرف الأسر، ولقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: كيف هو فيكم؟ فردّ أبو سفيان قائلاً: هو فينا ذو حَسَب، فقال هرقل: وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها....

وأما من ناحية الإعداد التربوي، فإن الله سبحانه وتعالى يصطنعهم لنفسه: يقول الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ (طه: 41)، ويصنعهم على عينه: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ (طه:39)، وأما سيدنا يحيى عليه السلام فإنه كان تقياً وبراً بوالديه، ولم يكن جباراً عصياً، وسيدنا عيسى عليه السلام، جعله مباركاً أينما كان، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم: 4).

ومن هذا وغيره نؤكد أيضاً أن نوحاً عليه السلام لم يكن بدعاً من الرسل، وأنه كان خلق كريم، يقول ابن خلدون عن الأنبياء والرسل عامة: ومن علاماتهم أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير، والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع، وهذا هو معنى العصمة، وكأنه مفطور على التنزّه عن المذمومات، والمنافرة لها، وكأنها منافية لفطرته، وكان نوح عليه السلام على خلق كريم، ما في ذلك شك، فلما انتهى إعداد الله له إلى غايته، فأجاه الوحي، وتلك أيضاً سنة الله في أنبيائه، فإنه حينما تصبح نفوسهم - بتربية الله وعنايته- أهلاً للتلقي عنه يفاجئها الوحي مثلاً وهي سائرة في الوادي المقدس وفي البقعة المباركة، كما حدث لسيدنا موسى، بينما هو سائر مع أهله رأى ناراً فقال لأهله: امكثوا هنا، وذهب نحو الضوء، فإذا به سمع النداء الإلهي ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ (طه:14)، أو يفاجئ الوحي النبي وهو في الغار فيأتي الملك آمراً: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق: 1)، وفاجأ الوحي نوحاً عليه السلام على نحوٍ من هذه الأنحاء، لقد فاجأه بالأمر - ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (نوح: 1) - بماذا ينذرهم؟  .

لقد بعث الله سيدنا نوحاً حينما عمّ الفساد؛ ليبشّر بالحق والخير والعدل، وبدأ سيدنا نوح عليه السلام بالتوحيد: ﴿ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (الأعراف: 59).

وهذا الذي قاله سيدنا نوح لقومه هو التبشير بالتوحيد، والتوحيد هو جوهر الرسالات السماوية جميعاً، والله سبحانه وتعالى يؤكد لسيدنا محمد خاتم النبيين ذلك قائلاً:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25) .

والتوحيد هو ما نعبر عنه في الإسلام بـ "أشهد أن لا إله إلا الله"، وهو العلامة الأصلية والطابع الحقيقي والجوهر الثابت لكل دين سماوي.. [ويحررالتوحيد  المجتمعات من خوف الموت- كما يحرّرها أيضا من هم الرزق كما سيرى بعد حين] ....

والمعنى الحقيقي للتوحيد: هو الاعتقاد اليقيني أن كل ما في الكون من خَلْق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر، وقوة وضعف، وعز وذل، مردّه إلى الله سبحانه، فالله سبحانه وتعالى متفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر أنواع التصريف والتدبير لملكوت السماوات والأرض، ويجب إفراده بالحكم، والتشريع، فهو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الأعراف: 54)....

ولقد بشر سيدنا نوح عليه السلام بالتوحيد، وبشر بالتوحيد جميع الرسل، وإذا فهم التوحيد على حقيقته واتخذته الإنسانية شعاراً لها يكون علاجاً لكثير من ألوان العنف في المجتمعات، فالإنسانية في مختلف أزمنتها وأمكنتها تخاف الموت وتخشاه، مما يقودها إلى استعباد الأقوياء، والذلة أمام الطغاة.

ولكن هذا الوضع لا يتماشى قط مع عقيدة التوحيد، فإن مالك الملك إنما هو وحده الذي يملك الموت والحياة، إنه يملك إماتة الطغاة أو تركهم لحكمة يعلمها سبحانه، وهو الذي قدّر الآجال وحدّدها، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

والحرص على الحياة - أو الجبن- ليس من أسباب إطالة الأجل، والشجاعة والإقدام ليسا من أسباب تقصير الأجل، وقد بيّن الله ذلك في كتابه الكريم الذي يعبر عن جميع الرسالات السابقة إبانة تامة، وكما أنه لكل أجل كتاب، فإنه لكل أمة أجل....

فإن الله سبحانه يرد عليهم: ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ (آل عمران: 154)، ﴿ وهؤلاء الذين قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ (آل عمران: 168)....

والمؤمن الصادق لا يعرف الجبن، ولا يستزله الشيطان موسوساً له بالخوف من غير الله تعالى.

وإذا كان خوف الموت هو الدعامة الأولى في ذلة الإنسان واسترقاقه، فإن الدعامة الثانية هي همُّ الرزق، والناس عادة ينتابهم القلق ويغمرهم الحرص على أقواتهم، ويلجأ بعضهم إلى وسائل لا تليق بالكرامة الإنسانية، بل يصل الأمر بالبعض إلى مستوى التملق والمداهنة والمراءاة، وبعضهم يصل به الأمر إلى الغش والرشوة والاختلاس، وتستعبد المادة والحصول عليها الإنسان فيصبح عبداً مسترقّاً.

ولكن الدين - وقد حرّر المجتمع من خوف الموت- فقد حرّره أيضاً من هم الرزق، فالرزق بيد الله تعالى ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ (هود: 6).

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء محدّد ومقسوم، وأقسم سبحانه على أن ذلك حق واقع، لقد أقسم سبحانه لما يعلم من ضعف الطبيعة البشرية وإشفاقها وقلقها بالنسبة لأمر الرزق ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ (الذاريات: 22 -23)، على أن صاحب الثراء العريض الذي يعتمد على شرائه غير ناظر إلى الله تعالى واهب الرزق الثراء، فقد يخسف الله به وبداره الأرض، كما صنع بقارون، أو يطوف ببساتينه ومزارعه طائف منه سبحانه، فتصبح خاوية على عروشها، كما فعل سبحانه بأصحاب الجنة الذين قصَّ علينا أمرهم في القرآن الكريم في "سورة القلم".

وما من شك في أن السعي إلى الرزق مطلوب، وأن العمل الجاد الكادح إنما هو من سمات الإسلام، كل ذلك حق، وإذا كان الرزق بيد الله تعالى، وإذا كان العمل مطلوباً، فإن ما ينهى عنه الإسلام إنما هو هذه الصورة الجشعة القلقة التي تحاول اقتناص المال في السبل غير المشروعة، أو التي ترى أن عبداً من عباد الله بيده الرزق، إعطاءً ومنعاً، وبيده الرزق زيادة ونقصاً، أو أخذاً وتركاً، فالتوحيد - إذن- علاج للجبن، وعلاج للقلق من أجل الرزق.

وقد أخذ سيدنا نوح - عليه السلام - يدعو إلى التوحيد في همة لا تفتر، وفي نشاط لا يتوانى، وأخذ يدعو ليلاً ونهاراً، وأخذ يدعو جهراً حينما تتيح له الظروف الدعوة الجهرية، ويدعو سراً حينما يستلزم الأمر الدعوة سراً، فلم يكن يدع فرصة تمرُّ إلا ويشرح فيها رسالة الله: مبشراً ونذيراً، مرغباً في ثواب الله وجنته، ومخوفاً من عقابه وعذابه.

لقد أخذ نوح يشرح لهم قدرة الله وشمول علمه، ودعاهم إلى التفكر في أنفسهم قائلاً: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ (نوح: 14)، ألا ترون أنه خلقكم في بطون أماتكم خلقاً من بعد خلق؟

لقد كنتم تراباً ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كنتم أجنة، وكنتم في جميع هذه الأطوار في رعاية الله، محفوظين بحفظه، محاطين بعنايته، وبعد ذلك كنتم أطفالاً فشبّاناً... وهكذا وستعودون إليه من جديد في أية لحظة شاء، فارجعوا إليه بالتوبة والإنابة، والطاعة قبل أن تواجهوه وهو غير راضٍ عنكم، ثم: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ (نوح: 15- 16).

ثم: ألم تروا كيف جعل لكم الأرض بساطاً، وجعل لكم فيها مسالك وسبلاً للإقامة والانتفاع، وفي كل ذلك ما نرى في خلق الرحمن من تفاوت.

وأخذ سيدنا نوح يعدد نعم الله: منها اليسير ومنها العظيم، الظاهر منها والباطن، ونعم الله كثيرة لا تحصى﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ (النحل: 18)، وأعلن لهم قانون "الاستغفار"، وسيدنا نوح أول من أعلن هذا القانون: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ (نوح: 10).

هذه هي مقدمة القانون أو قاعدته وأساسه، فإذا كان الاستغفار الخالص النصوح، وإذا كان الالتجاء إلى الله بطلب المغفرة في صدق كانت النتيجة: ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ (نوح: 11)، أي: يتنزل الغيث المحيي لأرضكم الجدباء، والذي يملأ أنهاركم الجارية بالخير والنماء، و﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ (نوح: 12)، فإن الإمداد بالأموال والبنين - وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع مترتباً على الاستغفار-، وإن هبة الجنات والأنهار - وقد أتى بهما القرآن بصيغة الجمع أيضاً- مترتبة على الاستغفار، هذا هو "قانون الاستغفار" الذي أعلنه نوح عليه السلام.

وهذا القانون عام لا يحدده زمان ولا يحدد مكان، فمن التجأ إلى الله في العصر الحاضر بالاستغفار الخالص النصوح الصادق فإن الله سبحانه يهيّئ له من الظروف ما يجعله يعيش في سعة من الرزق، وفي يسار من المال، إنه وعد الله الذي أوحاه إلى رسوله نوح ليعلنه للناس، ووعد الله لا يتخلف.

ولقد أوضح رسولنا صلى الله عليه وسلم - فيما بعد- زاوية مهمة من زوايا قانون الاستغفار وهي عدم وقوع العذاب على المستغفر، يقول تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ (الأنفال: 33).

إنَّ سيدنا نوح عليه السلام كان ينبه قومه إلى الظروف والملابسات التي تشير إلى صدقه، إنه لا يسألهم عن دعوته أجراً ﴿ وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ (هود: 29)، إنه - إذن- لا يطلب مالاً ولا يدعو بدعوته من أجل النقود.

 

2021-04-01

دلالات: