Sidonianews.net
--------------------
نداء الوطن / نوال نصر
نعتقد أن الحياة ثابتة، وأننا سنعبرها كلها، حتى آخر نفس، كما خططنا، لكن القدر خياله أوسع منا بكثير، ففي لحظة، في أقل من لحظة، يتغيّر كل شيء وينقلب الحزن إلى فرح والفرح قد يداهمه حزن شديد شديد. صَدَقَ من قال إننا نمشي على كفّ القدر ولا ندري عن المكتوب شيئاً.
صحيح أن الفرح والحزن، كما الخريف والربيع، يتتاليان لكن، ما يحدث أحياناً هو أن أحدهما قد يتمدّد ويطول ويمطّ فلا يعود الحزن ينتهي أو نظن أن الفرح قد أصبح ثابتاً نهائياً لا ولن ينتهي. لكننا، في الحالين، نخطئ. طارق وشادي، وشادي وطارق، إسمان أصبحا في يومين على كلّ شفة ولسان. لم ننتبه قبل عامين، في 4 آب 2020، إلى وجع طارق طياح لخسارته زوجته الجميلة مصممة المجوهرات هلا في تفجير مرفأ بيروت، كما لم ننتبه قبل عامين أيضاً، في حزيران 2020، إلى وجع شادي كريدي لموت شقيقه المهندس صخر دهساً تحت دواليب جرّار زراعي. حادثتان حوّلت حياة الرجلين، كما العائلتين، إلى سواد قاتم حالك دامٍ. ومنذ أيام قليلة، لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، ارتاح طارق وشادي من آلامهما الشديدة، لكنهما تركا وراءهما أطفالاً ما زالوا بحاجة ماسة إلى سندٍ وكتف ليكبروا في حياة ليست غالباً عادلة. إسألوهم. إسألوا أولاد طارق وهلا، طارق جونيور وتيا ماريا وتمارا، واسألوا أم صخر (الوالدة التي خسرت ولديها على التوالي صخر وشادي) وأولاد شادي الأربعة وأولاد شقيقه صخر الثلاثة وستسمعون جواباً واحداً: حتى دقات قلوبنا باتت تؤلمنا!
تمارا مع الرئيس الفرنسي
المأساة المتكررة
ما حدث يُدمي قلب (من يملك قلباً). الخبرُ وصل: شابان لبنانيان في عداد طوافة إختفت في الأجواء الإيطالية. وتدريجياً راحت تكتمل عناصر الخبر. هما يعملان في مجموعة «إندفكو الصناعية». كانا برحلة عمل يتعرفان على التقنيات الحديثة في صناعة الورق. مرّت ساعات تخلّلها كثير كثير من الصلوات. لكن وجع الأحياء، في الآخر، إشتدّ حين عرفوا من هما طارق وشادي. طارق زوج هلا وشادي شقيق صخر. وعاد واشتدّ أكثر حين عرفوا أن لكل واحد قصته وأطفاله ووجعه.
تمارا طارق طياح، أو «تم تم» كما يناديها «البابا» و»الماما»، صبيّة جمالها كما جمال والدتها وصلابتها كما صلابة والدها، أصبحت اليوم بلا أب ولا أم. وأول البارحة كتبت لوالدها طارق تنعيه: «لست أدري ماذا فعلت كي أستحق كل هذا. أرقد بسلام يا أبي. أحبك كثيرا».
هلا طياح وتوأمها
إيمانويل ماكرون، الذي قدمت له تمارا يوم جاء إلى لبنان خريطة لبنان مذهبة صنع والدتها، ضمن مجموعة والدتها: «أبقِ لبنان قريباً من قلبك»، قال لتمارا البارحة عبر صفحة الفيسبوك الرسمية الخاصة به: «أنا معك». الرئيس الفرنسي كتب: في الأول من أيلول 2020، إستمعت إلى كثير من الشهادات في بيروت، وواحدة أثرت بي بشكل كبير، إنها شهادة تمارا التي سلبها الإنفجار أغلى ما لديها أمها. السبب الذي يجعلني مندفعاً من أجل لبنان هو تمارا والأمل الذي تختزنه، أمل الشباب اللبناني. أضاف: في حادث ايطاليا خسرت تمارا والدها. أقول لها إنني أشاركها ألمها وأفكاري معها في هذه المحنة الرهيبة أكثر من أي وقت مضى. قلبي معها».
تمارا ألبستها والدتها ثياب الأميرات وأخذتها إلى ديزني لاند وجعلتها تحلم. جعلتها أميرة سعيدة قوية. أرادت أن تجعل منها شابة قوية قادرة على أن تتابع، مع شقيقها طارق وشقيقتها تيا ماريا، رحلة الحياة مهما كانت صعبة.
غريبة حقاً هي الحياة في ما تكتبه من أقدار وما تكتنفه من أسرار. غريبٌ هو التقاء كل من شادي وطارق معاً في قدرهما الذي ساوى بينهما في الحزن قبل عامين وساوى في الموت. غريبٌ أن يرحلا في إيطاليا، في رحلة عمل، فوق جبال توسكانا. هما على الأرجح كانا يفكران في تلك اللحظة بكل شيء، بأي شيء، إلا أن تكون تلك الرحلة عبر طوافة نهايتهما. طارق كان يبتسم. رأيناه يبتسم في آخر فيديو أرسله إلى أولاده الثلاثة طارق جونيور وتيا ماريا وتمارا. هو اعتاد أن يتصل بهم في اليوم القصير عشرات المرات. هو حاول، في العامين المنصرمين، أن يكون الأب والأم معاً. قدرُ الأولاد الثلاثة جدُّ قاسٍ.
تمارا وطارق والحب الأزلي
هناك، في «مونت كوسنا»، لقي طارق وشادي حتفهما. الأول من كسروان والثاني من العاقورة. في تلك اللحظات قد يكون شادي فكّر كثيراً بشقيقه صخر ووالدته أم صخر التي ستعيش الموت مرتين وهي بعد حيّة. وقد يكون طارق فكّر باللقاء الذي سيجمعه مع شريكة عمره هلا وعاد وفكّر بأولاده من بعدهما. هي ثوانٍ فاصلة بين الحياة والموت لكنها دهر في لحظات الموت. هما كانا يحلّقان فوق جبال مونت كوسنا التي ترتفع 2121 متراً. هي جبال تعرف باسم الرجل الميت أو الرجل النائم أو العملاق. إنها بشكل رجل. غريبٌ حقاً بعض الأقدار والتقاء المعاني في الرحيل.
إبتسامة طارق حتى اللحظة الأخيرة
كثيرون نعوا الرجلين: طارق (مواليد 1962) وشادي (مواليد 1975). سياسيون وحزبيون وإعلاميون وصناعيون ومواطنون قهرهم هذا الموت اللعين. الموت حقّ؟ هم يعرفون ذلك لكنه «قهّار» وأساليبه كثيرة عديدة. النائب نعمت افرام نعاهما «بقلب يحترق» أيضاً. والتيار الوطني الحر الذي يشغل شادي فيه منصب منسق لجنة الإستثمارات في اللجنة المالية نعاه. ووزير الطاقة فعل ذلك أيضاً كون شادي عضو مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان. لكن، قبل كل المناصب والمواقع والإنتماءات، كان شادي يموت في اليوم الواحد، منذ موت شقيقه صخر، مرات. فلا شيء «يحرز» أمام موت من نحبّ. ومن تابع أخيراً نشاطه عبر «السوشال ميديا» لاحظ «بوستاته» اليومية: يا عدرا... يا مارشربل... يا مار مارون... يا سانت ريتا... يا قديس اغسطينوس... هو كان يبحث عن معنى الموت قبل أن يموت. هو استمع مراراً الى الراهب المريمي الأب مروان خوري يتحدث عن الموت سائلاً: ما هو الموت؟ ووحده الكلام عن ان الموت حياة منحه الراحة. هو سمع الأب خوري يقول: «الموت حين يأتي مثله مثل الحياة حين تأتي، فالجنين في ساعات المخاض، يكون مرتاحاً في رحم أمه، هي تشدّ به ليخرج وهو يشدّ ليبقى في أحشائها، وحين يخرج يصرخ فتتفتح رواياه ويحيا ولا يعود يتقبل فكرة الموت. في المقابل، حين تأتي الساعة يبدأ الموت يشدّ الإنسان إليه والإنسان يشد ليبقى في الحياة وحين يغلبه الموت ليتنا نستطيع أن نسأله إذا كان يتمنى أن يعود إلى الحياة. هناك سيكتشف سرّ سعادة أخرى هي سعادة الحياة الحقيقية مع الله».
عادا معاً شادي وصخر
كان يريد شادي، مثله مثل طارق، ألّا يخافا من الموت ولا من قسوة الموت. أرادا أن يعبرا الحزن ويبتسما مجدداً. كانا يحاولان ذلك وكلّما تعبا كان صوت في داخل كلّ منهما يقول: الرجاء المحاولة من جديد.
طارق كان دائماً بعيداً عن السوشال ميديا. شادي كان أكثر نشاطاً، وطالما استجاب إلى زوجته ساريتا الفغالي، إبنة كفرعبيدا في البترون، التي كانت تحثه على التقاط الصور العائلية مع أطفاله الأربعة. وكأنها كانت تريد أن تؤمّن أكبر زوّادة ذكريات مصورة لهم.
ضحية التفجير واللاعدالة
سيعود طارق وشادي إلى لبنان. سيعود رفات كل منهما اليوم أو غداً أو بعد غد. الإجراءات تتخذ لذلك وجرح الأحياء، في الإنتظار، كبير كبير. الكل سألوا أنفسهم: كيف يمكن أن يستوعب أولاد فقدوا الأم في انفجار- المذنبون فيه أحرار- فقدان الأب في سقوط طوافة مريع؟ وكيف يمكن لأولاد صخر أن يستوعبوا أن من همس في آذانهم يوم مات والدهم: سأكون من اليوم وصاعداً مثل والدكم أنهم فقدوا الأب الثاني في عامين؟ وكيف ستخبر ساريتا أولادها الأربعة أن شادي لن يعود؟ وكيف وكيف...؟ كل الكلام بلا معنى. كل ما يقال سيبقى فارغاً أمام هول بعض المصائب التي لا تأتي فرادى.
شادي مع زوجته ساريتا
تذكروا هلا
كثيرون تذكروا في اليومين الماضيين هلا صباغ طياح. كثيرون تذكروا ضحكتها وإعرابها لأطفالها دائماً، على وقع النبض، عن حبها الجامح لهم: my son my sun... My life Tia... My queen Tamara... هي كانت أمّاً لثلاثة أطفال بينهم توأم. وواحدة من ابنتيها مصابة بالتوحد. وراء ابتسامة هلا الدائمة كان وجعٌ. ووراء رفعها قضية أطفال التوحد عبر open minds كان إصرار منها على نقل «فتاتها» وكل أطفال التوحد الآخرين الى البرّ السليم. هو قدرها. هو القدر اللئيم غالباً.
بعد أيام سننسى طارق وشادي كما سبق ونسينا أكثر من 220 ضحية في تفجير مرفأ بيروت. لكن، فلنتذكر كلما نظرنا الى السماء، الى النجوم في السماء، أنه لولا الملائكة في السماء لم يكن ليستطيع من في الأرض إكمال رحلة الحياة. طارق جونيور وتيا ماريا وتمارا وأم صخر وساريتا وأطفال شادي وصخر أنظروا الى السماء، الى شمسها وقمرها ونجومها، واطلبوا من ساكنيها الصبر والسلام والإبتسام، في يوم ما، من جديد.
----------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / الضحيّتان طياح وكريدي والقدر المكتوب ... شادي وطارق وجبال "مونت كوسنا" وسرّ الموت
2022-06-13