Sidonianews.net
-----------------------
الجمهورية / طوني عيسى
في الأعوام الأخيرة، إقترب لبنان كثيراً من تصنيف «الدولة الفاشلة». وتدرك القوى الدولية الراعية تقليدياً له أنّ هذا الكيان لم يعد مكتمل المواصفات كدولة، وباتت تخشى انزلاقه إلى فوضى يصعب إنهاؤها، وفراغ لا يُعرف مَن سيقوم بتعبئته.
في الأروقة الدولية، يتم التداول بتقارير مخيفة عن حقيقة الوضع اللبناني، بوجوهه المختلفة: سياسياً وطائفياً ومالياً وأمنياً وإدارياً. ففيها كلها وصلَ البلد إلى الخط الأحمر أو يكاد. ولذلك، يضغط رُعاة لبنان لمنع انزلاقه إلى الانهيار التام وتفسّخه.
يعني هذا أن لبنان قد يواجه وضعاً صعباً جداً إذا رفعت هذه القوى الدولية أيديها، وتركته يواجه مصيره من دون تغطية. وعلى سبيل المثال، إنّ إسرائيل التي تقوم بتدمير غزة وتشنّ الغارات باستمرار على مواقع لإيران و»حزب الله» في الداخل السوري، تتجنب تماماً تنفيذ أي ضربة جوية على لبنان، منذ العام 2006 وصدور القرار 1701. وهذا الخط الأحمر الدولي فوق لبنان يحظى بضمانة أميركية وأوروبية منيعة. وربما باستثناء إسرائيل، ليست هناك مصلحة لأي طرف دولي أو إقليمي في انتهاكه. فحتى الإيرانيون يدركون أبعاد هذه الضمانة لبلدٍ يمتلكون فيه القرار والسلطة، عبر حلفائهم.
لكن مشكلة لبنان ليست في إسرائيل فحسب، بل هي أساساً في الصراع القديم بين مجموعاته الكيانية. فمنذ أن انتهت صلاحية «تلزيم» لبنان لدمشق، برعاية دولية وإقليمية، في العام 2005، بقيت القوى السياسية والطائفية الداخلية تتخبّط في مكانها، ولم تتوصل إلى صيغة بديلة لضمان استقرار الدولة، أمنياً ومالياً وإدارياً. بل هي بقيت عاجزة عن إطلاق أي مسار في هذا الاتجاه.
ومن الواضح أن لا اتفاق لبنانياً على اتفاق الطائف نفسه، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على بدء تطبيقه. فبعيداً من المواقف المعلنة، هناك في الواقع مَن يريد نسف الطائف بالكامل، وهناك مَن يريد تطبيق ما يناسبه فقط. ولكن، بالتأكيد، لا أحد يريد تطبيقه بالكامل وبالروحية التي صيغ بها في العام 1989.
ولأنّ كل الأطراف في لبنان تحظى بدرجات من الدعم أو الرعاية الخارجيين، فقد نشأ توازن رعب يمنع أي طرف من حسم الخيارات داخلياً لمصلحته، وبشكل مطلق، مهما تعاظم نفوذه. لكن هذا الواقع يؤدي إلى حال من المراوحة والتأزم لا نهاية لها.
والدليل الأبرز إلى فشل الطائف هو أن المؤسسات الدستورية كافة تغرق في التعطيل. فموقع رئاسة الجمهورية شاغر، والحكومة في وضعية تصريف أعمال، والمجلس النيابي شبه مشلول، والإدارة كلها مُنهارة، وكذلك منظومة المال والمصارف. وأما الأجهزة العسكرية والأمنية فهي تعاني كثيراً لتتمكن من أداء واجباتها، لأسباب كثيرة، سياسية وأمنية ومالية.
وهذا الأمر هو الذي يستدعي اهتمام الأميركيين والفرنسيين خصوصاً، وهو العنوان الذي تندرج تحته المساعي الديبلوماسية الناشطة أخيراً، والتي كان قطباها الأساسيان: عاموس هوكشتاين وجان إيف لودريان.
عندما فشل اللبنانيون في صياغة عقد وطني جديد أو تفاهم على إحياء الطائف، بعد خروج سوريا، وأصيبت رئاسة الجمهورية والحكومة وسائر مؤسسات الحكم بالشلل، راهَن الأميركيون على مؤسستين تشكلان ركيزة للاستقرار ومنع انزلاق لبنان إلى انهيار كامل، وهما: ضمانة الأمن من خلال الجيش، وضمانة المال من خلال مصرف لبنان.
ولكن، بعد أزمة تشرين الأول 2019، تزعزع الاستقرار المالي باهتزاز موقع المصرف المركزي، ولم يبق سوى الجيش عموداً فقرياً للدولة. ولذلك، ينصَبّ الاهتمام الدولي اليوم على التشبّث به وبسائر المؤسسات الأمنية، في موازاة الدفع نحو ترميم ركيزة المال، باستعادة المصرف المركزي، والقطاع المصرفي عموماً، حداً أدنى من الثبات، بهدف استعادة التوازن إلى الدولة التي تعاني شللاً مستمراً للمؤسسات الدستورية.
وتاريخياً، بقيت واشنطن هي الراعية الأساسية للمؤسسة العسكرية في لبنان، ومعها فرنسا. واليوم، تبدو هذه الرعاية مصيرية ولا يمكن التهاون إزاءها، في ظل التحديات الخطرة التي تواجه الكيان اللبناني من الداخل وعلى الحدود.
فأيّ شلل قد يصيب المؤسسة العسكرية سيعني انفراط الضمانة الأخيرة للدولة اللبنانية، وانفلات الوضع على المجهول، بحيث لا يُعرف مَن سيحاول السيطرة على قرارها، وبين مَن ومَن ستندلع النزاعات، إذ ليس مضموناً أن يبقى لبنان تحت سلطة واحدة.
وأما على الحدود، فسيكون الوضع أكثر إحراجاً، لأنّ الجيش هو ضمانة القرار 1701، وإضعافه يعني تطيير القرار وتغيير قواعد الاشتباك جنوباً، في هذه المرحلة الحساسة، حيث النار يمكن أن تُشعل لبنان كما غزة.
ولذلك، تبقى الأولوية الدولية، والأميركية خصوصاً، هي ضمان قوة المؤسسة العسكرية. وبعد ذلك، يمكن لملف رئاسة الجمهورية أن يُحلّ أو أن ينتظر، فالبلد اعتاد أن «يمشي» بلا رئيس أو بلا حكومة فاعلة لشهور أو سنين، لكنه لا يستطيع البقاء يوماً من دون ضمانة الجيش.
------------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / أولوية واشنطن: الجيش لا الرئاسة
2023-12-06