Sidonianews.net
---------------------
الجمهورية / جوني منير
على رغم من توقف العمليات القتالية في ساحات الحرب في الشرق الأوسط، إلّا أنّ المناخ السائد لا يزال يميل إلى احتمال تجدّد المواجهات العسكرية. والسبب يعود إلى أنّ التفاهمات السياسية الكبرى لم تتمّ بعد، وتحديداً مع إيران التي ترعى الأفرقاء الذين يتولون المواجهة مع إسرائيل وتشرف عليهم.
والمعروف أنّ أحد أبرز الملفات المفتوحة هو الملف النووي. وما عزز تصاعد المخاوف من تجدّد المواجهات العسكرية هي المواقف والإشارات الإيرانية التي عادت ومالت إلى التشدّد. فعلى رغم من الضربات القاسية التي أصابت النفوذ الإقليمي الإيراني في الصميم، لم تظهر مواقف إيرانية حاسمة بالإقرار بالنتائج الميدانية، وبالتالي القبول بالمعادلة السياسية الجديدة. لا بل بدا أنّ طهران تعمل على توظيف عامل الوقت وتراهن على توسع دائرة الفوضى لإعادة تعزيز أوراقها ودورها، وهو ما اشتهرت به السياسة الإيرانية دائماً. أضف إلى ذلك رهانها على تعب خصومها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، ما سيجعل حركتها أسهل على الملاعب المفتوحة في المنطقة.
ففي غزة، وعلى رغم من الضربة العسكرية القاسية التي تلقّتها حركة «حماس»، فإنّ المشروع الإسرائيلي الذي تدعمه إدارة ترامب والمرتكز على تهجير الفلسطينيين، يلقى شجباً عربياً واسعاً وشاملاً، وهو ما يجعل الرهان الإيراني على عامل الوقت منطقياً. وفي سوريا أيضاً ومع تصاعد التوترات الأمنية الداخلية في مناطق متعددة، تبدو الفوضى قريبة، وهو ما سيفتح الأبواب أمام إيران لالتقاط بعض الأوراق وتوظيفها لمصلحتها. أما في لبنان، فإنّ استمرار إسرائيل في احتلال بعض المواقع اللبنانية، وفي الوقت نفسه استمرار الحصار المالي على الإقتصاد المتهالك، سيشجعان إيران على الرهان على عامل الوقت، من جهة لاغتنام «حزب الله» الفرصة بهدف إعادة تنظيم نفسه، ومن جهة أخرى لجعل السلطة (والتي نشأت وفق المعادلة السياسية الجديدة) تدور في حلقة مفرغة تؤدي في نهاية المطاف إلى تنفيس الأجواء المؤيّدة والتي واكبت وصولها.
وما عزز هذا الاقتناع ليس فقط المواقف المتشددة التي أطلقها أكثر من مرّة مرشد الثورة السيد علي خامنئي، بل أيضاً تلك التطورات التي شهدتها السلطة الإيرانية. فأن يجري عزل وزير الإقتصاد والمال في اليوم نفسه الذي تمّ فيه «دفع» مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف إلى تقديم إستقالته، إنما يعطي مؤشرات التشدّد والمواجهة.
لكن المطلعين لا يوافقون أصحاب هذا الرأي المتشائم، ويعتقدون أنّ كل ما سبق إنما له علاقة بظاهر الأمور. فالأوساط الديبلوماسية الأميركية لا ترجح إبتعاد خامنئي عن طاولة المفاوضات في شكل كامل وحاسم ونهائي. وتفسيرها أنّ المرحلة الحالية تحتّم على الإدارة الأميركية الغرق في التفاصيل الصعبة للملف الأوكراني، وهو ما يمنح الهامش لإيران لتنفيذ مناورات تهدف إلى تحسين شروطها التفاوضية. وتضيف هذه الأوساط أنّ هذا لا يعني بالضرورة أن يحصل تفاوض مباشر لاحقاً بين واشنطن وطهران، بل أن تجري وفق الصيغ السابقة، أي مفاوضات غير مباشرة، فالأهم هي النتائج وليس الشكل. وتشير الأوساط نفسها وفي معرض تأكيد وجهة نظرها، أنّ قنوات الإتصال لا تزال قائمة بين واشنطن وطهران ولكن عبر أطراف مختلفة، بعضها عربي وبعضها الآخر أوروبي، وأخيراً دخلت روسيا على الخط. وتجدر الإشارة هنا إلى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف لطهران مطلع الأسبوع الفائت، وأعلن الطرفان الروسي والإيراني أنّ الملف النووي كان حاضراً خلال الجلسة.
ولكن هذا لا يلغي التباعد الذي لا يزال قائماً بين طهران وواشنطن إزاء الحلول المطروحة للملف النووي. ففيما تتحدث إيران عن حل في إطار خطة عمل شاملة، فإنّ إدارة دونالد ترامب تحمل خطة مختلفة. ومعه لا يوجد حتى الآن أي مؤشر جدّي إلى أنّ الحدّ الأقصى الذي تبدي إيران استعدادها لتقديمه يلائم الحدّ الأدنى الذي من الممكن أن تقبل به واشنطن. لذلك لم تكن من باب المصادفة استعادة المناورات والإستعدادات الجوية الإسرائيلية والأميركية فوق البحر المتوسط، والتي تحاكي ضربة جوية للمنشآت النووية الإيرانية. فمع استمرار نتنياهو على رأس السلطة في إسرائيل ووجود ترامب في البيت الأبيض، فإنّه لا بدّ من أخذ احتمال الذهاب إلى الخيار العسكري على محمل الجدّ. وقد يكون النائب الجمهوري الأميركي واللبناني الأصل دارين لحود أفضل من وصف سياسة ترامب حين قال: «عندما يقول ترامب شيئاً يجب أن نأخذه على محمل الجدّ، ولكن من دون تفسيره حرفياً».
وفي الواقع، ثمة معطيات أخرى تدفع إيران إلى وضع حسابات متأنية أكثر، وتتعلق بمشهد المنطقة والتوازنات الجديدة الناجمة عنه. فالتراجع الكبير الذي لحق بالنفوذ الإيراني في المنطقة، والذي كان قد كلّفها عقوداً من الزمن وإمكانات مالية هائلة، ذهبت كلها هباء وفي مدة قصيرة نسبياً. هذا التراجع قابله صعود للدور التركي. فأنقرة كانت تتحيّن الفرصة طوال السنوات الماضية لفتح أبواب المنطقة أمامها وتثبيت مواقع قوة لها، ما سيكرّسها لاعباً إقليمياً ومحورياً أساسياً قادراً على التوازن مع إيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. وحاولت تركيا التقاط الفرصة من البوابة السورية مع اندلاع الثورة عام 2011. لكن التطورات الميدانية وتشابك اللاعبين جعلا قدرة تأثيرها محدودة. وجاءت الطامة الكبرى مع الدخول العسكري الروسي عام 2015، والذي أنتج حضوراً عسكرياً روسياً ثابتاً وفاعلاً مع إنشاء قاعدتين عسكريتين مجاورتين للحدود مع تركيا. الأولى جوية ومجهزة بأحدث وسائل الرصد والتجسس في حميميم. والثانية بحرية وتشكّل حلقة تواصل للأسطول الروسي في طرطوس، وهو ما جعل الساحل التركي تحت الرقابة الروسية اللصيقة. وبالتالي فإنّ ما هدف إليه أردوغان يومها جاءت نتائجه عكسية، وهو ما تمّت ترجمته فوراً في «أزمة» إسقاط الطائرة الروسية قبل أن يتمّ الإتفاق على تنظيم العلاقة.
لكن مع سقوط نظام بشار الأسد والدور الروسي الغامض، تبدّلت اللعبة وأضحت الأبواب مشرّعة أمام اندفاع النفوذ التركي وعلى حساب تراجع النفوذ الإيراني وانسحابه مرغماً من بلاد الشام.
وهذا الدخول التركي لم يقتصر فقط على سوريا، خصوصاً بعدما لمس أردوغان ضعفاً في الحضور الإيراني في كل المنطقة. لذلك وقبل أن يعمد إلى تركيز قواعده في سوريا، باشر نقلته الثانية في اتجاه العراق أو ما اصطلح على تسميته بحديقة إيران الخلفية. وهنالك من يعتقد أنّ الحركة التركية ليست استعجالاً بمقدار ما هي لإلهاء إيران ومنعها من تأجيج الفوضى في سوريا. وبالتالي عملت تركيا على توسيع دائرة حضورها العسكري شمالي العراق، مستفيدة من انشغال طهران بنزاعها المفتوح مع إسرائيل وتبادل الضربات معها.
وفي الوقت الذي سعت تركيا إلى إجراء معالجة نهائية لملف الأكراد طالما أنّ الظروف ملائمة، ارتابت من وجود تشجيع لبعض القوى الكردية بعدم السير في أي تسوية مع أنقرة. وتعتقد تركيا بوجود بصمات إيرانية في هذا المجال. لكن هذا النزاع الحاصل على الساحة الكردية والقائم أيضاً على مصالح أمنية واقتصادية ونفطية سيبقى مضبوطاً تحت سقف محدّد. ذلك أنّ إيران «تشم» رائحة أميركية في حركة التوسع التركي، وتركيا بدورها تحاذر الإنزلاق كثيراً في وحول ستؤثر سلباً على مشاريعها ومصالحها. إذاً هي منافسة قاسية ولكن مضبوطة.
واستتباعاً فإنّ هامش المناورات الإيرانية في المنطقة لم يعد واسعاً. فالطرفان الإقليميان القويان يقفان لها بالمرصاد كل من زاويته. فإسرائيل تريد اقتلاع أنيابها النووية في شكل نهائي وحاسم وإعادتها إلى داخل حدودها، وتركيا تريد دفعها إلى الوراء ولو من دون إشهار العداء لها، ذلك أنّ أنقرة وحدها قادرة على ملء الفراغات الناجمة عن خروج إيران من سوريا والعراق.
أما روسيا فحساباتها اختلفت، والملعب الأوروبي أصبح أكثر إغراءً لها، والفرصة باتت سانحة بعد التفاهم الغامض القائم بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والاميركي دونالد ترامب. وبخلاف الإستنتاجات المتسرّعة لبعض المراقبين، فإنّ طهران لم تكن مسرورة بالمواجهة الغريبة التي حصلت في المكتب البيضاوي بين الرئيسين الأميركي والأوكراني. والسبب أنّ كلفة «الفاتورة» التي سيدفعها بوتين أصبحت مرتفعة بسبب المجهود الكبير الذي يقوم به ترامب في ملفي أوكرانيا وأوروبا. وزيارة وزير الخارجية الروسي لطهران أكّدت التلزيم الأميركي لروسيا في بعض جوانب الملف النووي. وبذلك تكون إيران تفقد سنداً دولياً أساسياً في لعبة الكباش مع إدارة ترامب. طبعاً فإنّ ذلك لن يعني انقلاب موسكو ضدّ طهران، لأنّ للبلدين مصالح مشتركة وحسابات متقاطعة، إلّا أنّه يكفي ألّا تقف روسيا في موقع المساند القوي لإيران في الملف النووي لتصبح حسابات طهران الضمنية أكثر واقعية.
ووسط هذه الحسابات المعقّدة لا بدّ من أن تكون إيران مستعدة لمفاوضاتها الصعبة بعد إقفال ملف أوكرانيا، وهو ما يعطيها حيزاً من الوقت يمتد لأسابيع أو ربما أشهر معدودة، حيث ستعمد لتوظيفه في مناورات عالية السقف وتوجيه رسائل حامية. كما أنّ من المنطقي أن تسعى لتحسين مواقعها وتهديد المعادلات الجديدة التي نشأت خصوصاً في لبنان وسوريا. وما يفتح شهيتها في هذا المضمار ظهور إشارات التفتيت في سوريا، وهو المشروع الذي تريد إسرائيل تعميمه لاحقاً على أرجاء أخرى. فالذهاب إلى التفتيت سيعني تلقائياً رفع منسوب الفوضى، وسيمنح بالتالي فرصاً لإيران، خصوصاً أنّ تركيا ستعتبر نفسها متضررة من توسع الحضور الإسرائيلي جنوب سوريا، والذي أصبح قريباً جداً من دمشق. كما أنّ الكلام عن توسط نتنياهو لدى ترامب لغض النظر عن الحضور العسكري الروسي في حميميم وطرطوس سيثير حفيظة أردوغان، كونه سيعتبره موجّهاً ضدّ الحضور التركي في سوريا. في وقت ستعمد إيران إلى البحث عن ممرات برية سرّية في سوريا، تسمح لها بتواصل ولو ضعيف ولو متقطع مع «حزب الله» في لبنان.
ووسط بحر التشابكات والمناورات المفتوحة، إلّا أنّه لا بدّ من الإقرار بواقعية أنّ من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وجلّ ما يمكن تحقيقه هو تحسين التقاط أوراق إضافية وتحسين بعض الظروف في انتظار الصيف المقبل. أما الإعتقاد غير ذلك فلا يبدو واقعياً، أقله وسط الحسابات القائمة حالياً.
----------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / رفع السقف، ليس أكثر..
2025-03-06