Sidonianews.net
-----------------------
الجمهورية / جوني منير
نجحت السلطات اللبنانية في إمرار أول مرحلة من الإنتخابات البلدية في أجواء أمنية وتنافسية ممتازة. صحيح أنّه الإمتحان الإنتخابي الأول في عهد الرئيس جوزاف عون الذي تمسّك بعدم التأجيل، وتحت إشراف وزارة الداخلية التي أشرفت على كل التفاصيل على رغم من أنّه لم يمض سوى أشهر معدودة على تشكيل الحكومة، إلّا أنّ الملاحظة الأهم هي في دخول لبنان هذا «العرس» الشعبي بعد حرب طاحنة ومدمّرة لا تزال جروحها تنزف، ووسط حروب تلهب البلدان المجاورة للبنان، وأهمها ما يحصل في سوريا.
تاريخيا كان المشهد معكوسا. فالصراعات كانت تمزق مختلف المناطق اللبنانية فيما كانت ساحات الشرق الأوسط تعيش استقرارا ولو كاذبا. أما الآن وبعد كل ما حصل فإن السلطة اللبنانية الفتية تخوض أول تحد طابعه شعبي، وتنجح في اختبارها، في وقت تتزاحم فيه الأحداث والتطورات الحرببة والدموية في المنطقة. والإستنتاج الأول الذي يمكن الخروج به هو بأن التركيبة السلطوية الجديدة والقائمة على معادلة جديدة جرى بناؤها على أنقاض المعادلة التي كانت نشأت منذ العام 1990 شملت في أحد عناوينها إزالة خطوط التماس الإقليمية التي نشأت في قلب الساحة اللبنانية طوال العقود الماضية. ذلك أن الساحة اللبنانية شكلت منذ العام 1973 ساحة المواجهات والصراعات وتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية. صحيح أنه من المبكر بعض الشيء الحديث عن "تنظيف" لبنان من العوامل الإقليمية، لكن الصورة الإنتخابية الهادئة في وقت تلتهب فيه المواجهات والصراعات في المنطقة إنما تبعث على الإرتياح وتمنح الأمل للشروع في مسار العودة الطويل.
وفي وقت ستنصرف فيه القوى السياسية على قراءة الإشارات السياسية والمزاج الشعبي الذي يمكن استنتاجه من الإنتخابات البلدية في منطقة جبل لبنان التي تختزن مختلف القوى السياسية وخصوصا على الساحتين المسيحية والدرزية بعد كل التطورات التي حصلت، فإن هذه القراءة ستشمل أيضا التفاعل ولو المحدود بين البيئة الشعبية لهذه القوى السياسية واحتمالات التحالف والتعاون في الإنتخابات النيابية المقبلة وتحديدا في المناطق الحساسة والتي تضم اختلاطا مسيحيا وشيعيا، وأخرى درزيا ومسيحيا، وأيضا درزيا وسنيا.
وعلى أهمية الإشارات السياسية التي سبجري استخلاصها من الإختبار الشعبي الأول ولو من زاوية الإمتحان البلدي في الحقبة اللبنانية الجديدة إلا أنه من الخطأ إهمال التطورات الضخمة الدائرة بالقرب من لبنان. فهنالك رسم معطيات ميدانية جديدة بالدم تحضيرا لخارطة جغرافية جديدة على أنقاض خارطة سايكس بيكو والتي أستنفدت مهمتها بعد نحو قرن من الزمن. ومن المنطقي أن يتأثر لبنان بنتائج هذا الصراع الكبير لاحقا. لكن الفارق هو في مواكبة لبنان لهذه التبدلات الجغرافية بحد أدنى من الإستقرار وهو ما تحمل لواءه السلطة الجديدة، أو الغرق في وحول الدماء والمواجهات وربط الساحة اللبنانية بالحروب والرسائل الدموية. مع التذكير هنا بالمفاوضات الأميركية_الإيرانية والتي تحمل في طياتها ترتيب المعادلات والأوزان الإقليمية الجديدة. فلقد بات جليا أن المشروع الأميركي الجاري ترتيبه للمنطقة لا يحمل في طياته ضرب إيران وإغراقها في الفوضى. فحتى دونالد ترامب صاحب الخطاب الناري تجاه إيران لم يظهر سلوكه السياسي أي نية جدية لاستهداف إيران عسكريا، بخلاف الرؤيا التي تحملها الحكومة الإسرائيلية اليمينية. فالواضح أن واشنطن تسعى لتعديل سلوك إيران الإقليمي، أو بتعبير آخر إيجاد وظيفة خارجية جديدة لها ترتكز على قيام "شراكة" إقتصادية ضخمة بينها وبين واشنطن وتشكل ضمانة لاستمرار نظامها الديني القائم وتأمين استقراره وديموميته ولكن من دون تمددها باتجاه ساحل البحر المتوسط عبر سياسة "الأذرع". ذلك أن التطورات الدموية المتلاحقة في سوريا تؤشر الى وجود مشروع لتفكيك أوصال المنطقة للذهاب الى دويلات طائفية ومذهبية والتي ستشكل البديل عن خارطة سايكس بيكو التي عرفناها.
والإشارة الفجة التي أرسلها ترامب من خلال إقالة مسؤول الأمن القومي مايكل والتز والأهم تسريب سبب إقالته عبر الإعلام إنما تؤكد المسار الذي يتجه إليه ترامب تجاه إيران. فالتواصل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من "خلف ظهره" لتأمين ظروف تسمح بضرب إيران بدل التفاهم معها من خلال التفاوض، إنما هي مسألة غير واردة أقله في المرحلة الراهنة. فالتلويح بالقوة كعامل ضغط تفاوضي هو شيء واستخدام القوة فعليا شيء آخر. وأدى الإرتباك داخل إدارة ترامب نتيجة إقالة والتز الى تأجيل جولة المفاوضات الثالثة بين واشنطن وطهران. ومن المفهوم أن يدفع هذا التأجيل الى رفع منسوب القلق والحذر لدى النظام الديني في إيران الذي هو بطبيعته ينتهح سلوكا شكاكا ومتوجسا، خصوصا بعد التغييرات الضخمة التي طالت ساحات نفوذه في المنطقة، ووسط نوايا الحكومة الإسرائيلية. أضف الى ذلك التعب الداخلي بسبب الأوضاع الإقتصادية والتي يفاقم من صعوبتها استمرار سياسة العقوبات الأميركية المرهقة.
وانطلاقا مما سبق فإن الأوساط الديبلوماسية الغربية قرأت في الصاروخ الحوثي الذي أصاب مطار إسرائيل رسالة بعدة عناوين موجهة من إيران الى تل أبيب وواشنطن.
فالصاروخ الذي نجح في اختراق أنظمة الدفاع الإسرائيلية وعلى عدة طبقات هو صاروخ متطور جدا، ما يعني أنه يخضع للتحكم الكامل من قبل الحرس الثوري الإيراني. وقد اختبر لبنان هذا التمييز في التحكم بالأسلحة خلال الحرب التي حصلت. فالصواريخ الدقيقة والمسيرات المتطورة كانت تخضع للإمرة الإيرانية المباشرة، كون استخدامها يحمل أبعادا ونتائج أكبر من المسار الكلاسيكي للحرب. ولذلك فإن إيران قد تكون في العنوان الأول لرسالتها أرادت أن توجه رسالة حازمة لنتنياهو الذي يعيش بدوره أياما داخلية حرجة. وتقول الرسالة الإيرانية بأنه ما يزال لديها قوتها الصاروخية المتطورة والقادرة على إصابة أي منطقة تريد داخل إسرائيل، "لذلك لا تفكر بالضربة العسكرية".
أما العنوان الثاني للرسالة فهو باتجاه واشنطن وتحديدا إدارة ترامب وتقول بأن المرحلة لا تحتمل التسوف أو التمهل. وهو ما يعني وجوب إتمام التسوية عبر المفاوضات من دون إضاعة الوقت، خصوصا وأن ترامب سيزور السعودية التي لا تكن الكثير من الود لإيران.
أما العنوان الثالث فهو للمحافظة على الشكل والهيبة التي يحتاجها نظام ديني إرتكز خطابه طوال العقود الماضية على محاربة كل من يقترب من "الشيطان الأكبر". بينما الواقع يشهد مفاوضات ستكون "مثمرة" ليس فقط مع هذا "الشيطان الأكبر" بل مع ترامب الذي من المفترض أن تحمل طهران ثأرا ضده بسبب قراره باغتيال مهندس استراتيجية محور المقاومة قاسم سليماني.
وفي موازاة ذلك تنزلق سوريا أكثر فأكثر في أتون مجهول وفي مشروع تفكيك الدولة على نار "الإسلام المتشدد" وصراع النفوذ الإسرائيلي والتركي. فما حصل في جرمانا وصحنايا جاء كنسخة متجددة لما حصل مع العلويين في منطقة الساحل السوري ولو بصيغة مخففة بعض الشيء. ووفق الأسلوب الإسرائيلي الذي اختبره لبنان في ثمانينات القرن الماضي رفعت إسرائيل من صوتها كحامية للأقليات في المنطقة لكنها عمليا تركت المجموعات المتطرفة تدخل الى المناطق ذات الغالبية الدرزية من دون أن تمنعها من الجو. فمن الواضح أنها تعمدت ترك حصول مجازر بهدف خلق واقع يؤدي الى توسيع الهوة بين الدروز ودمشق وخلق واقع يمنع عليهما التلاقي مستقبلا تحت أي ظرف كان. ولاحقا عمدت إسرائيل لشن ثاني أعنف الغارات منذ وصول أحمد الشرع الى السلطة. ظاهر هذه الحملة الجوية هو الثأر لاستهداف المناطق الدرزية لكن حقيقتها استكمال تدمير قدرات الدفاع الجوي والتي حاولت دمشق إعادة ترتيبها. وفي الوقت نفسه، وانسجاما مع تحضير اسقلالية المنطقة الجنوبية، عمد الجيش الإسرائيلي الى توسيع حضوره الميداني جنوبا. أو بتعبير أوضح إرساء الركائز الأولية لتحقيق انفصال المنطقة في وقت قد لا يكون بعيدا.
وجاء الترتيب لوقف القتال ليمهد لهذا الإتجاه لا العكس. فالمكون الدرزي رفض تسليم سلاحه تحت أي ظرف. والحل الذي تحقق منح شرعية للسلاح الدرزي ولو من خلال جعله تحت "إمرة" دمشق. فالإمرة هنا صورية أكثر منها فعلية، ومقتبسة من نموذج الأكراد. صحيح أنه تم الإتفاق على ضم 700 عنصر من فصائل السويدا الى جسم الأمن العام، لكن الواقع هو اعتراف سلطات دمشق بتشكيل لواء عسكري من أبناء السويدا تابع لوزارة الدفاع، ولكنه يحظى باستقلالية واضحة. ما يعني أن مناطق ثلاث باتت تعيش خصوصيات ولو بدرجات متفاوتة. الأولى هي كردية وحمايتها أميركية، والثانية درزية وحمايتها إسرائيلية، والثالثة علوية عند الساحل السوري ولو أنها ما تزال ضعيفة ولكنها واقعة بحكم الأمر الواقع ومرجعيتها من المفترض أن تكون روسية.
لكن الرسالة الأهم وجهتها إسرائيل للشرع مع إسقاط صاروخ على نقطة عسكرية كانت تشغلها سابقا قوات ماهر الأسد وتبعد حوالي مئة متر فقط عن جدران القصر الرئاسي. وهذه الرسالة تشبه الى حد بعيد الصاروخ الذي كانت أطلقته الطائرات الإسرائيلية بالقرب من منزل ماهر الأسد يوم كان بشار يشغل القصر. وكان فحوى الرسالة يتعلق باستمرار مد حزب الله بالسلاح من خلال الفرقة الرابعة، ومفادها أن ضرب نظام الأسد لم يعد خطا أحمر. وهذا ما حصل لاحقا.
هنالك قول مأثور مفاده أنه عند تغيير الدول "إحفظ نفسك". فلا جدال بأن المنطقة أمام مفاوضات كبرى وأحداث دموية خطيرة وعلى مشارف تغيير خرائط. ولا حاجة للقول أن على لبنان بجميع مكوناته التعاطي بكثير من الحكمة والتعقل مع الجحيم المفتوح بجوارنا، من دون الوقوع تحت "إغراءات" المواقف الغرائزية التي "يمتاز" بها خطاب الطبقة السياسية اللبنانية بهدف توسيع دائرة النفوذ، طالما أن الرعاية الدولية والعربية تعمل على إزالة خطوط التماس الإقليمية من ساحته.
-----------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / إنتخابات واعدة رغم الجحيم الإقليمي
2025-05-05