Sidonianews.net
-----------
جريدة صيدونيانيوز.نت
بقلم :علي خليل ترحيني
على غيرِ ميعادٍ مع النسيان، وعندَ مفترقِ الطرقِ الذي تتهاوى فيه قاماتٌ وتتوهُ فيه البوصلةُ، لا يسعُ النفسَ إلا أنْ تُطلِقَ تنهيدةَ الرجاءِ التي تتجاوزُ حدودَ الحنجرةِ لِتَستحضرَ هالةَ الثباتِ التي أحاطتْ رجلاً لم يكنْ مجردَ اسمٍ يترددُ في سجلاتِ الذاكرة، بل كان فكرةً وجوديةً تجسَّدَتْ في صميمِ الفعلِ النضالي.
إنَّ الحديثَ عن مصطفى سعد، ليس مجردَ استذكارٍ لـ نائبٍ رحلَ أو مناضلٍ أغبرتْ سِيرتَه السنون؛ بل هو غوصٌ في معينِ صيدا التي لم يُرِدْ لها أنْ تكونَ مجردَ مدينةٍ ساحليةٍ على خريطةِ الوطن، بل أرادَها عاصمةً للجنوبِ ورافعةً للنضالِ العروبيِّ. هو رجاءٌ يتسامى فوقَ المخاطبةِ المباشرةِ، ليصيرَ استمطاراً لِـ "الفِعلِ السعديِّ" في زمنِ التخاذلِ، فهلْ مِنْ ندىً يُروي؟
*في مقامِهِ، يتجلى الرجاءُ بأبهى صورهِ:*
*رجاءٌ صيداويٌّ مُتعطِّشٌ لعبقِ الالتزامِ الاجتماعيِّ؛ ورجاءٌ لبنانيٌّ بأنْ تظلَّ جراحُه شاهدةً على أنَّ ثمنَ السيادةِ لا يُدفَعُ إلا بالدمِ المُقدّس؛ *ورجاءٌ عروبيٌّ وفلسطينيٌّ؛ ففي عمقِ كلِّ مواقفِه، كانتْ القدسُ هي البوصلةَ الأزليةَ، وكانتْ قضيةُ فلسطينَ هي القضيةَ الأمَّ التي لم تتلوّثْ. هكذا، يتجسَّدُ مصطفى سعدُ اليومَ لا نداءً مُوجَّهاً، بل صورةً مُشرقةً تُخاطبُ وجدانَنا المُتعب، بصيرةً لا تزالُ ترى رغمَ فَقْدِ العيونِ، وموقفاً لا يزالُ شامخاً رغمَ تهاوي الأعمدة، ليبقى "الإرثَ الذي لا يُمحى" و**"الفكرةَ التي لا تموتُ"**.
*الفكرةُ الباقيةُ في سِفرِ صيدا والمقاومة*
الإرثُ المشتعلُ وعبءُ الأمانة
في العاشرِ من شباط عام 1951، وُلِدَ مصطفى معروف سعد في صيدا، وقدّرَ لهُ التاريخُ أنْ يكونَ امتداداً لا مجردَ خلفٍ. لم يكنْ الشابُّ الآتي من دراسةِ الهندسة الزراعية في موسكو، والذي عادَ في 1975 إثرَ اغتيالِ والدهِ، ليحملَ شهادةً علميةً فحسب، بل حملَ عبءَ مدرسةٍ ثوريةٍ لا تَعرفُ المساومةَ. من لحظةِ تسلمهِ الأمانةَ كأمينٍ عامٍ لـ التنظيمِ الشعبيِ الناصريِّ، انطلقتْ سيرةٌ أبتْ إلا أنْ تترجمَ الناصريّةَ إلى فعلٍ مُقاوِمٍ وجذرٍ اجتماعيٍّ يرفضُ التمركزَ الماليَّ الطائفيَّ. كانَ يرى في العروبةِ الديمقراطيةِ السبيلَ لتجاوزِ العللِ الطائفيةِ، مُؤمناً بأنَّ السياسةَ ليستْ مهنةً للوَجاهةِ بل هي مُمارسةٌ أخلاقيةٌ تُوجَّهَ بوصلتُها نحو الفقراءِ.
*صيدا: عاصمةُ الجنوبِ ومحرابُ الصمود*
صيدا، في فلسفةِ مصطفى سعد، لم تكنْ جغرافيةً يمثلُها، بل كانت تاريخاً حيّاً عليه أنْ يصونَه. تجلّى ذلكَ جلياً مع بدءِ الاجتياحِ الإسرائيلي، حيثُ أصرَّ على البقاءِ في قلبِ مدينتِهِ، رافضاً أنْ يغادرَها أو يُسلِّمَ مفاتيحَ نضالِها. لقد كانتْ القيادةُ بالنسبةِ إليهِ اقتحاماً لا تراجعاً. أسَّسَ وقادَ جبهةَ المواجهةِ الوطنيةِ (1982)، وجبهةَ المقاومةِ الوطنيةِ اللبنانيةِ في صيدا، مُنسِّقاً بينَ الفصائلِ، ليُصبحَ مركزُه خندقاً متقدماً للذودِ عن كرامةِ الجنوبِ، ومُثبتاً أنَّ المقاومةَ ليستْ مجردَ خيارٍ تكتيكيٍّ بل هي عقيدةٌ راسخةٌ.
*ثمنُ الثباتِ وبصيرةُ الإرادة*
إنَّ قامةً كهذه، لا يمكنُ أنْ تسيرَ في رِكابِ المُسالمةِ. ولذلكَ كانَ مُستهدَفاً أربعَ مراتٍ، دافعاً ثمنَ الثباتِ والمبدأ. لم يكنِ انفجارُ كانون الثاني 1985 مجردَ محاولةِ اغتيالٍ، بل كانَ إعلانَ حربٍ على فكرةِ الصمودِ الصيداويِّ. فقدانُه لبصرهِ في ذلكَ التفجيرِ الآثمِ، الذي ارتقَتْ فيهِ روحُ ابنتِهِ ناتاشا، لم يُقصِهِ عن الميدانِ، بل صقلَ بصيرتَهُ الإنسانيةَ والوطنيةَ. لقد عادَ مصطفى سعد من رحلةِ العلاجِ مُثخناً بالجراحِ ولكنهُ أكثرَ إصراراً وتماسكاً، مُجسِّداً مقولةَ الأسدِ الراحلِ بأنَّ جراحَهُ "وسامٌ على صدرِ كلِّ عربيٍّ شريف".
النائبُ الشاهدُ والإرثُ الثقافيُّ
انتُخبَ مصطفى سعد نائباً عن الجنوبِ لثلاثِ دوراتٍ، وكانتْ مقعدهُ في المجلسِ النيابيِّ امتداداً لـ خندقِ المقاومةِ ومحرابِ الفقراءِ. حصدَ رقماً قياسياً من الأصواتِ، دلالةً على تفويضٍ شعبيٍّ يقومُ على الصدقِ والنزاهةِ. وقفَ بصلابةٍ في وجهِ مشاريعِ الخصخصةِ ونهبِ الدولةِ، مُساهماً في صونِ المؤسساتِ. ولم تكتملْ سِيرتُهُ دونَ تأسيسِهِ لـ مركزِ معروفِ سعدٍ الثقافيِّ الاجتماعيِّ (1989)، مُدرِكاً أنَّ المقاومةَ هي وعيٌ مُحصَّنٌ يُبنى في الأجيالِ، مُحارِباً بذلكَ آفةَ الطائفيةِ بتلاقي الأفكارِ.
*ثوابتُ البقاء ووهجُ السيرةِ المُتجدِّدة*
إنّ رحيلَ مصطفى سعد لم يكنْ نهايةَ سِفرٍ، بل كانَ نقطةَ تحوّلٍ في مسيرةِ الثباتِ على المبادئِ. ففي ختامِ هذهِ السيرةِ المجبولةِ بالدمِ والموقفِ، لا بدَّ من التأكيدِ على أنَّ إرثَهُ ليسَ مجردَ فصولٍ مطويةٍ، بل هو وثيقةٌ حيّةٌ لـ الثوابتِ الوطنيةِ والقوميةِ التي لا تقبلُ المساومةَ. لقد ظلَّ مصطفى سعد، حتى آخرِ رمقٍ، أميناً لـ الفكرِ الناصريِّ الوحدويِّ التقدميِّ، الذي يرى في العروبةِ سبيلاً لجمعِ الشتاتِ، وفي العدالةِ الاجتماعيةِ أساساً لكلِّ نهضةٍ، وكانتْ المقاومةُ الوطنيةُ عقيدتَهُ، وفلسطينُ جوهرَهُ.
إنَّ النورَ الذي أضاءَهُ مصطفى سعد، لم ينطفئْ بوفاتِهِ في عام 2002، بل انتقلتْ شُعلتُهُ بأمانةٍ وإخلاصٍ إلى قلبِ شقيقِهِ، الدكتور أسامة سعد، الذي استكملَ المسيرةَ، مُحافظاً على التنظيمِ الشعبيِّ الناصريِّ كخندقٍ للنضالِ. وبذلكَ، لم يَعُدْ الأمرُ مجردَ استذكارٍ لرمزٍ مضى، بل هو تأكيدٌ على استمراريةِ النهجِ وتجديدٌ للعهدِ على مواصلةِ الكفاحِ بـ القوةِ والصلابةِ ذاتها في وجهِ الاحتلالِ والفسادِ، حتى يتحققَ الحلمُ الذي ناضلَ من أجلهِ مصطفى سعد: لبنانُ وطناً نهائياً لجميعِ أبنائهِ، ومُقاوِماً في قلبِ أمّتهِ العربية.
*سلامٌ على روحهِ في عليائِهِ، وسلامٌ على الدربِ الذي ما زالَ مُناراً بالصدقِ والثباتِ.*
2025-10-12