الرئيسية / أخبار صيدا /في ذكرى رحيل أبي !..

جريدة صيدونيانيوز.نت / في ذكرى رحيل أبي !..

في ذكرى رحيل أبي !..

 

بقلم : خليل إبراهيم المتبولي

كان الفجر يموت على جسده ، وظلال الأشياء تتكسّر من حوله حزينة ،  رفع وجهه ببطء وثبّت عينيه علينا كأنّه يريد أن يشبع من وجوهنا أو كأنّه يريد أن يقول لنا ابتعدوا قليلاً كي أرحل بسلام ، ثبّت عينيه على خيوط الضوء الأخيرة وهي تلمع وتنطفئ في آنٍ واحد وبلمعانها تذوب رويداً رويداً في بحر العتمة والظلمات .

مدّ يده صوب الضوء وأخذ جرعة من كأس الحياة الجديدة التي سيرحل إليها  ، وكأنّ يداً تمتد نحوه وتعطيه ذاك الكأس فنراه  يبتسم تارة ، وتدمع عينيه تارة أخرى ، وفي انحناءة القلب وانكسار المقاومة المضحكة لرغبات الكأس اشتبكت روحه مع ملاكها المكلّف بأخذها معه إلى الحياة الجديدة ، وبعد مناوشة خفيفة وبسيطة ، استسلم قلبه وتوقف وأغمض عينيه بسلام وهدوء دون ضجيج ..

أبي ، لقد رحلت يا غالي يوم الأثنين 26 أيلول من العام الفائت ، وكان خبر رحيلك صاعقاً لنا جميعاً ، رغم أننا كنّا مهيئين أنفسنا منذ أيام للصدمة العاطفية  التي ستهزنا ، وخصوصاً أن الوجع أخذ يستوطنك ويستفحل بك ، وأنت الرياضي البطل الذي كان مضمار الدراجات الهوائية يهابك والبحر يعشقك  والملاعب تهواك فقد أصبح جسدك ملعباً للمرض مما جعل الطبّ يقف عاجزاً عن مساعدتك ،لا ندري لماذا؟وما الحكمة من ذلك ؟

أبي ، لقد غلبك الموت ، وأصبح هو البطل الذي هزمك وكسرنا ، وأخذت الدنيا تضبضب أغراضها وأغراضك بالفعل لا بالقوة ، وغرقت الأشياء في ملح عينيك ، وأصبحت الحقيقة الوحيدة التي أضحى لها وجه واحد لا وجهان هي موتك ، لقد انتقلت من التعبير والحركة إلى السكوت والسكون ، واسترجعت وحدة الكون ودخلت بها وحيدا ً وثبّت خيطانها على حيطان صقيع العزلة ودفء التوحّد ...

أبي ، لقد حملْتَ جسدك الآخر ، وروحك الأخرى ، وكفنك ، ورحلت ...  وتركت لنا بطاقتك الشخصية ، وثيابك ، وكل تفاصيلك لنستذكرك دائماً ، وكيف لنا أن ننساك وأنت سبب وجودنا وقيمتنا في هذه الحياة ، وأنت الذي زرعت بذور المحبة والألفة بيننا ، حتى الناس يا أبي التي تعاملَتْ وتعاطَتْ معك وعرفتْكَ في هذه الحياة تستذكرك وتستذكر مآثرك وطيبتك ، ومعاملتك الحسنة معها ، ولا تتوانى عن طلب الرحمة لك  .

 أبي  لقد كنا نرفع رأسنا بك في حياتك ، واليوم في مماتك ما زلنا نرفعه أكثر ، لقد كنت يا أبي فخرا ً لنا في حياتك ، ونحن اليوم فخرٌ لك في مماتك .

أبي ، ملْت َ برأسك قليلاً ، ونظرت نحو اللا مكان واللا زمان ، ودخلت في فراغ اليوم الموعود ، في تلك اللّحظة جلست أسراب من الطيور متعبة على أغصان الشجر ، وراحت تقصّ رحلة الستة وسبعين عاماً من نضالاتك وتضحياتك وعذاباتك في هذه الحياة ما بين الضحك والبكاء ، وقد امتلكتها رعشة واهنة مفعمة بعذابات روحك ، ثمّ ما لبث كلّ شيء أن سكت ، الهواء لم يعد يحرّك أوراق الشجر ، العصافير نامت ، والكون صار جماداً ، وفي بقايا الضوء الآتي من البعيد صرنا نلمح ابتسامة ثغرك ...

أبي ، اليوم وبعد سنة على رحيلك ، أيقنت ُ تماما ً أنني أصبحت ُ أعزلاً في هذه الحياة ، ولم يعد لي ظهرأ أتّكأ عليه ولا سنداً ، وقد ملأني الحنين إليك يا أبي ، وأحسّ أنني أشدّ ما أكون احتياجاً إليك ...

2017-09-27

دلالات: