https://sidonianews.net/article305773 /عن الكنيسة وضبابيّة النفس البشريّة
صيدونيا نيوز

كريستال إينو (فرنسا)

جريدة صيدونيانيوز.نت / عن الكنيسة وضبابيّة النفس البشريّة

 

Sidonianews.net

-------------------

 

خريستو المر  - استاذ جامعي

الاخبار

 

 

حكمت محكمة فرنسيّة غيابيّاً على الكاهن منصور لَبَكي بالسجن لمدة 15 عاماً، بعد حكم الفاتيكان في حقّه عام 2012 بقضاء حياة منعزلة لإقدامه على الاعتداء الجنسيّ على قاصرات لأعوام مضت. كلّ ذلك على خلفيّة عدم التصديق والافتراءات بحقّ ضحاياه التي رأيناها في لبنان على جري العادة. فالكنيسة في منطقتنا لا تزال تعيش محصّنة من كلّ حساب وتدير قضايا التحرّش والاعتداءات الجنسيّة بعقليّة القرون الوسطى، عقليّة يسودها الصمت، وإخفاء ارتكابات رجالاتها، وإخراس ضحاياهم وقمعهم بالتعاون والتكافل مع النظام السياسيّ الذي يرفض تسليم الأب لَبَكي إلى فرنسا، ولا يسعى إلى محاكمته مدنيّاً في لبنان.

 

ما كان يمكن أن يكون مثيراً للدهشة، هو ألّا تتحوّل القضيّة إلى قضيّة عامّة، وألّا تصبح «قنبلة إعلاميّة» وقد تمنّينا لو أثارت سخطاً شعبيّاً يضغط على الكنيسة لتتعامل مع قضايا مشابهة بعلانيّة وشفافيّة وحزم. لكنّ الكاتبة هيام القصيفي ترى أنّها «قضيّة فرد»! مقالتها «قضية الأب لَبَكي: الكنيسة وضبابية الاتهامات والحكم» («الأخبار» 10/ 11/ 2021)، مثال في نكران الواقع ومحاولة الاحتماء من فجاجته بالتمسّك بالوهم المخدّر للعقل والذي يسمح للإنسان بمتابعة حياته «بسكينة» رافضاً أن يعي بأنّ كنيسة تدوس على كرامة الناس وأجسادهم ونفوسهم من دون أن يرفّ لها جفن إن كان ذلك يخدم مصالحها (حماية رياض سلامة شاهد حديث على ذلك).

 

تقول المقالة إنّ «الكنيسة في لبنان مطالَبة قبل غيرها بضرورة محاسبتهم [المتحرّشين]. لكن تعميم التحرش كتهمة جاهزة من شأنه أن يلقي بظلال شكّ، وإخفاء حقيقة المتحرّشين والمجرمين الفعليّين، خصوصاً أنّ لَبَكي حظي بدعم مجموعات من أصدقائه ومحبّيه، وأطفال عاشوا في مؤسساته، وكبروا بعدما استفادوا من مساعداته، ونافذين كانوا على اتصال بالكرسي الرسولي لإطلاعه على حقيقة الملف القضائي». بالطبع لا يجوز التعميم، فهل من المعقول أنّ كلّ كاهن متحرّش؟ الكاتبة تريد أن تستثني الأب لَبَكي الذي ليس متّهماً فحسب، بل هو مُدان من محكمتين واحدة كنسيّة في الفاتيكان والأخرى مدنيّة في فرنسا، ولا شأن لذلك مطلقاً بتعميم تخشاه المقالة ولا يطرحه أحد.

عندما تصف محامية الضحايا الفرنسيّات الأب لَبَكي بأنّه «مفترس لديه عشرات الضحايا، لكن معظمهم لبنانيون ولا يجرؤون على التحدث علناً خوفاً من الانتقام»، فهي لا تعني ــ كما يمكن لكلّ عاقل أن يعلم ــ أنّه قد اعتدى على كلّ إنسانة أو إنسان التقى به، بل إنّه اعتدى على عشرات الضحايا «فقط». من المنطقي أن يكون لكلّ مُتَّهَم (ولَبَكي مُدان وليس مُتَّهَماً) أناسٌ يشكّكون في ما ارتكبه لأنّه تعامل معهم ولم يلاقوا منه شرّاً، ذلك أنّ ارتكاب أحد لجُرمٍ لا يعني أنّه قد صنع ذاك الجرم مع كلّ إنسان التقى به في حياته. فإن ضَرَبَ إنسانٌ إنسانًا آخر، أو سرقه أو قتله أو اعتدى عليه جنسيّاً فهو بالتأكيد لم يضرب أو يسرق أو يقتل أو يعتدي على كلّ إنسان التقى به.

تقول الكاتبة إن «كلّ من أدانوه، أدانوه سلفاً، قبل تدخّل الفاتيكان في القضية وإلزامه الصمت والابتعاد عن الظهور والانصراف إلى الصلاة التي كانت أساساً خبزه اليومي»، ونلاحظ هنا محاولتها الفاضحة لتحريف الواقع من أجل التخفيف من حقيقة الأمر، فالفاتيكان - رغم صمت الكنيسة المخزي في لبنان ونكران بعضهم للواقع – لم يتدخّل لإلزام لَبَكي بالصمت فقط، بل أدانه لارتكابه الاعتداءات الجنسيّة وحكم عليه بالعزلة. أمّا الصلاة التي كانت «خبزه اليوميّ» كما تشير قصيفي، فهي لم تردّه عن الاعتداءات الجنسيّة على قاصرات، تلك الاعتداءات التي جعلت المحكمتين الكنسيّة والمدنيّة تدينانه. الأمر الذي ترفضه الكاتبة هو التصديق بحكم محكمتين فقط لأنّ لديه جوانب من شخصيّة جيّدة (صوت جميل مثلاً). في أفضل الأحوال يمكن القول بأنّ الكاتبة تقع في خطأ شائع ألا وهو اعتبار المعتدين «وحوشاً». لا هم ليسوا وحوشاً، هم بشر مريضون يحتاجون إلى علاج إلى جانب السجن الذي يحكم به القضاء، وكما أنّ الصلاة لا تشفي الإنسان من ارتفاع الضغط حتّى ولو كانت «خبزاً يوميّاً»، فهي لا تشفيه من أمراضه النفسيّة، ولا من مرض التحرّش والاعتداء. ولربّما الكاتبة وقعت في تفكير سحريّ شائع، يبثّه التعليم الدينيّ التقليديّ، وهو تعليمٌ يساوي بين لبس الثياب الكهنوتيّة، وتطبيق الطقوس، أو الترهّب، وبين القداسة. هناك جهل شبه تام بواقع الاعتداءات الجنسيّة، جهلٌ مسؤولٌ عنه هذا المجتمع الذي يعيش في سطحيّة أخلاقيّة بحيث لا يمانع في الإشادة بديانات تعتبر الإنسانَ على صورة الله، والناسَ عياله، وفي نفس الوقت يدأب على حماية المرتكبين أكانوا معتدين جنسيّين، أم لصوص مصارف وبلاد. وإن كانت هذه «الأخلاق» السطحيّة الكلاميّة الجوفاء مسؤوليّة المجتمع ككلّ، فرجال الدين هم المسؤولون الأساس عن حماية المرتكبين بسبب موقعهم في السلطة.

أُدين الأب لبكي في محكمة كنسيّة، ثم في محكمة مدنيّة قد يكون من اشترك فيها مؤمناً وقد لا يكون، لكنّه بلا شكّ كان قريباً من يسوع لقربه من الضحايا ومن الحقّ

 

تهاجم قصيفي الإعلاميين الذين يتعاطون مع القضيّة من دون أن يعلموا «فحواها وأساسها وخلفياتها»! فنحن في عصر «يصبح الاتهام [فيه] بالتحرش صيغة جاهزة معلّبة من دون النظر في الحقائق». إنّ استعمال عبارة «القضيّة» هنا في غير موقعه كما هو استعمل مفردة «الاتّهام». الكاتبة نفسها متوهّمة) بأنّ هناك «قضيّة»، بينما الواقع أنّه لم تعد هناك قضيّة ولا متّهم: انتهت القضيّة. المحكمتان حكمتا وهناك محكوم عليه.

ثمّ يبلغ التفكّك أقصاه بقولها: «قلّة رافقوا القضية بحيثياتها منذ أن انفجرت، أو قرأوا الملفات الخاصة، أو قرأوا أوراقها، في الفاتيكان أو في فرنسا ولبنان، وماذا كُتب عنه في الصحف المتخصّصة كنسيّاً، ولا سيما «لاكروا»، وكانت الذريعة للبعض بأنها قضية صحيحة لمجرد تناولها» في هذه الصحيفة. وتضيف الكاتبة جملة «ولماذا وكيف ومن هم وراء الحملة الإعلاميّة؟»، في سياق غير مفهوم، لتوحي بأنّ هناك حملة إعلاميّة. ضدّ مَن؟ ضدّ شخصٍ محكومٍ عليه مرّتين. لا يمكن أن تكون هناك حملة إعلاميّة، هناك أخبار حول محاكمتَين انتهتا بإدانة المتّهم.

وتكتب القصيفي أنها «قضية تغري جمهور مواقع التواصل الاجتماعي الذي لا يعرف لَبَكي ولم يسمع باسمه من قبل ولا سمع له ترتيلة ولا عظة، فسارع هؤلاء إلى التعليق... لمجرد أن القضية هي اتهام بالتحرّش الجنسي في زمن الاتهامات الكثيفة ضد متحرّشين فعليين». الكاهن المحكوم مرّتين كان صاحب صوت جميل وعظات مؤثّرة، تقول لنا الكاتبة، وهذا ليس بالغريب فالشخصيّات المعتدية عادة ما هي شخصيّات عامّة كاريزميّة. ولكنّ محاولة الدفاع المستميت الذي تقوم به الكاتبة يبدو جليّاً من خلال دسّها كلمة «فِعليّين»؛ فالمحكوم لَبَكي بِعُرف الكاتبة هو مجرّد متّهم (تصرّ الكاتبة على هذه الصفة) وتريد أن توحي بأنّه ليس متحرِّشاً مثل المتحرّشين «الفعليّين». والواقع أنّ المحكمتين أثبتتا أنّه «مفترس لديه عشرات الضحايا»، بتعبير المحامية الفرنسيّة. محزن أن يصل الاستهتار بالعقول إلى هذه الدرجة.

ثمّ تنتقد الكاتبة «المولَعين» بأحكام القضاء الفرنسيّ الذي تذكره ساخرةً، لأنّ فرنسا نفسها «تعاني من تبعات تقرير اللجنة المستقلّة التي بحثت على مدى سنتين في الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، ولا تزال غارقة منذ أسابيع في تداعياتها وتعويضاتها والعلاقة مع الفاتيكان حول التداخل بين أسرار الكنيسة والأعمال المرتكبة وحق الدولة المدنية في الوصول إلى المعلومات»، أي أنّ الكاتبة تعتبر الأمرَ الذي يجب أن يشيد به أيّ عاقل ألا وهو إنشاء لجنة مستقلّة للتحقيق في الاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة، كما وطلب فرنسا الإفراج عن المعلومات من الفاتيكان، تعتبره مدعاة للسخرية.

وتصل الكاتبة إلى تصوير الأب لبكي رجلاً قدّيساً متألّماً غارقاً في الصلاة وتلحين التراتيل، فتدعونا إلى التعاطف معه (لا مع ضحاياه)، فهو غارقٌ في «الصمت» و«الوجع والمرض والشيخوخة والتراتيل». ثمّ تعلن الكاتبة أنّه لا يمكن لإنسان أن يقبل بالاعتداءات الجنسيّة، «لكن هل هذه حقيقة ما حصل» مع لَبَكي؟ تريد الكاتبة أن تقول إنّ الحقيقة لا تكمن في محكمة الفاتيكان ولا في المحكمة الفرنسيّة (والمحكمتان مطّلعتان على تفاصيل القضيّة وشهادات الضحايا). فما هي هذه «المحكمة الفرنسيّة» التي «تقول إنّهنّ [الفتيات] كنّ ضحايا»؟ المحكمة الفرنسيّة، عند قصيفي، «تقول»؛ وكأنّ حُكمَ المحكمة مجرّد رأي إنسان جالسٍ يتناول القهوة ويتبادل الأحاديث و«يقول» رأياً، وليست محكمة من قضاة ومحامين وتعمل وفقاً لقوانين ومعطيات.

تحاول القصيفي أن تتجاهل آلام وأوجاع ضحايا لَبَكي فقط لأنّه «ربّى» أجيالاً، ولم يعتدِ على جميع النساء اللواتي احتكّ بهنّ. ما هذا المنطق؟ التراتيل ليست وحدها تاريخاً كنسيّاً، التاريخ الكنسيّ يحمل أيضاً الأوحال والجرائم، مثل قضايا الاعتداءات الجنسيّة حول العالم والتي تعترف الكاتبة بصحّتها، لكنّها تنكرها بالنسبة إلى رجل أثبتت تهمتَه محكمتان. وبعدما تفادت الكاتبة أن تذكر بأنّ الفاتيكان حاكم الرجل وحكم عليه، مكتفية فقط بذكر أنّ الفاتيكان «طلب» منه الصمت؛ تتساءل القصيفي: «ما هو تفسير حكم المحكمة الفرنسية الذي جاء أكثر شدة من حكم الفاتيكان؟». كأنّ الفاتيكان يمكنه سجن إنسان، وكأنّ الكاتبة لا تزال لا تعلم أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة خارجة من سبات عميق (الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تزال في عمق السبات) كانت فيه مشاركة بفاعليّة بقمع الضحايا وحماية المرتكبين.

أخيراً تطالب الكاتبةُ الكنيسةَ بالشفافيّة، لكنها تُنهي مقالتها بالدعوة إلى «عدم تجريم أبرياء تحت سطوة أي عنوان»، موحيةً بأنّ لَبَكي الذي جُرِّمَ من محكمة كنسيّة وأخرى مدنيّة، هو بريء. هذه الخاتمة تشكّل مثالاً للهروبِ من الواقع ولضبابيّة النفس البشريّة، وهي ضبابيّة تسمح للكاتبة بمشاركة المرتكِب في جريمته بمحاولتها ــ المفكَّكة إنما الحثيثة ــ لمحو تلك الجرائم من الذاكرة، عن طريق التشكيك في محكمتين، والإيحاء بأنّه لا تزال هناك «قضيّة» و«متّهم». فإذا بالمقالة تمارس تعميمَ الضياعِ والتفكيرِ السحريّ الذي يقدّس الثوب الدينيّ، ويسمح باستمرار الانتهاكات تحت غطاء ذاك الثوب، وبفرضِ ديكتاتوريّة الصمتِ على الضحايا.

عبر التاريخ، انتظرت الكنيسة أن تتحرّر من خطاياها بواسطة يسوع، لكنّها أحياناً كثيرة أغلقت عليه خارجاً، فقرع أبوابها بأتباعه من ملحدين ومؤمنين، مسيحيّين وغير مسيحيّين، لتفتح أبوابها للحقّ، فيحرّر هو الكرامةَ البشريّةَ الأسيرةَ بين جدرانها. في حالة الأب لَبَكي حرّر المسيح الضحايا وفتح الفرصة لعقول أتباعه لكي تتحرّر. ليس بالمقالة المذكورة بالطبع، وإنّما بمحكمة كنسيّةٍ، ثم بمحكمةٍ مدنيّةٍ قد يكون من اشترك فيها مؤمناً وقد لا يكون، لكنّه بلا شكّ كان قريباً من يسوع لأنّه قريب من الضحايا، ومن الحقّ.

----------------------

جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / عن الكنيسة وضبابيّة النفس البشريّة


www.Sidonianews.Net

Owner & Administrator & Editor-in-Chief: Ghassan Zaatari

Saida- Lebanon – Barbeer Bldg-4th floor - P.O.Box: 406 Saida

Mobile: +961 3 226013 – Phone Office: +961 7 726007

Email: zaatari.ghassan@gmail.com - zaataripress@yahoo.com

https://sidonianews.net/article305773 /عن الكنيسة وضبابيّة النفس البشريّة