بيت الحكمة أسسه هارون الرشيد كان مركزاً علمياً وفكرياً خلال العصر الذهبي العباسي. (الجزيرة)
جريدة صيدونيانيوز.نت / الحكمة قيمة إسلامية رفيعة
صيدونيانيوز.نت/ أقلام ومقالات / الحكمة قيمة إسلامية رفيعة
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة هي النبوة، وقيل: القرآن، والفقه به: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدَّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.
وقيل: الإصابة في القول، والفعل. وقيل: معرفة الحق، والعمل به. وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح. وقيل: الخشية لله. وقيل: السنة. وقيل: الورع في دين الله. وقيل: العلم، والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما. وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة. وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة.
ويمكن تقسيم الحكمة إلى نوعان:
النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً، وأمراً، وقدراً، وشرعاً.
النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه.(ابن القيم،1989، ج2، ص478)
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العالم، والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل، والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحقَّ لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع، والعمل الصالح.
وقد أعطى الله عز وجل أنبياءه، ورسله، ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام في [سورة الشعراء: 83]: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}، وهو الحكمة النظرية {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} وهو الحكمة العملية.
وقال تعالى لموسى عليه السلام في [سورة طه: 14]: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا }وهو الحكمة النظرية {فَاعْبُدْنِي}وهو الحكمة العملية .
وقال عن عيسى عليه السلام في [سورة مريم: 30 ـ 31]: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *} وهي الحكمة النظرية {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *} وهو الحكمة العملية .
وقال في شأن محمد صلى الله عليه وسلم في [سورة محمد: 19]: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ }وهو الحكمة النظرية و{َاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وهو الحكمة العملية .
وقال في جميع الأنبياء في [سورة النحل: 2]: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}وهو الحكمة النظرية ، ثم قال: {فَاتقون}وهو الحكمة العملية .(الرازي، 1999، ج7، ص68)
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقَّه، ولا تعدِّيه حدَّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه. لما كانت الأشياء لها مراتب، وحقوق تقتضيها، ولها حدود، ونهايات تصل إليها، ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم، ولا تتأخر؛ كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه، وقدره، ولا تتعدَّى بها حدَّها، فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها، فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه، فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً، وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر، وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع، ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب.(ابن القيم،1989، ج2، ص479)
الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية، والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها، ولا جور.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا *}[النساء: 40]، وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاقُ، ولا يغيض ما في يمينه سعةُ عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره، وفضله إلا في موضعه، ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته، ولا منع إلا بحكمته، ولا هدى، ولا أضلَّ إلا بحكمته.
الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك، والفطنة، والعلم، والخبرة. والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وهي أعلى درجات العلماء.(ابن القيم،1989، ج2، ص482)
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يوسف: 108] فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس: أنَّ هذه طريقته، ومسلكه، وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين، وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ويقين، وبرهان عقليٍّ، وشرعي.(ابن كثير،1970،ج2، ص496).....
د. علي الصلابي/ مدونات الجزيرة