
جريدة صيدونيانيوز.نت / خليل متبولي: في ذكرى رحيل محمد علي الخطيب: حين رسم الذاكرة وخلّد البطل القبرصلي
Sidonianews.net
-----------------------
بقلم : خليل ابراهيم المتبولي
في ذكرى غياب الفنّان الكبير، الشاعر، والأديب محمد علي الخطيب، نقف وقفة تأمّلٍ أمام إرث لا يُقدَّر بثمن، تركه لنا هذا المبدع الذي لم يكن يرسم بريشته فحسب، بل بروحه، وذاكرته، ووجعه، وآمال شعبه. لقد شكّل محمد علي الخطيب علامة فارقة في الفن المقاوم، حيث اختلطت الألوان بدماء الشهداء، واختلطت اللوحات بنداءات الحرية، فكان بذلك ليس مجرد رسّام، بل مؤرّخًا بصريًا لذاكرة الجنوب وذاكرة الوطن بأسره.
من بين أعماله الكثيرة التي لا تُنسى، تبرز لوحة "الشهيد القبرصلي" كتحفة فنية نادرة لا يمكن المرور بها مرور الكرام. جسّد فيها الخطيب بطولة ذلك الفتى الصيداوي المراهق، ابن الستة عشر عامًا، الذي واجه المُحتل وجهًا لوجه، في واحدة من أشجع عمليات المقاومة في مدينة صيدا، إبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لم يكن القبرصلي مجرد فتى، بل كان رمزًا لميلاد المقاومة، وانبعاث الروح المقاتلة في وجه آلة القمع والدمار.
لقد كان الفنان الخطيب يكرّر دائمًا أنّ أولى شرارات المقاومة انطلقت من صيدا، المدينة التي لم تركع، والتي كانت دومًا في طليعة المدافعين عن كرامة الوطن. لم يكن هذا مجرد رأي سياسي، بل كان وجدانًا راسخًا في أعماقه، تجلّى في أعماله، وفي كلماته، وفي اختياراته للمواضيع التي تناولها في رسوماته. لقد آمن أنّ الفنّ سلاح، وأنّ اللوحة وثيقة، وأنّ مقاومة النسيان لا تقل أهمية عن مقاومة الاحتلال.
في لوحة "القبرصلي"، نرى ذلك الفتى الشجاع في ذروة اندفاعه. لا يقف الخطيب هنا عند حدود التشخيص الفني، بل يتجاوزها إلى ميدان التعبير الثوري. فالفتى يتقدّم، يهجم، يتحرك بجسده وكأنه الريح، بينما تتجمّد أجساد جنود الاحتلال أمامه، تعتريها الرهبة والذهول. نلاحظ في هذه اللوحة مهارة الخطيب في تشريح الجسد الإنساني تحت لحظة التوتر القصوى، حيث تُرينا حركة البطل كيف أنّ الشجاعة يمكن أن تطيح بأقسى آلات القمع.
أما الألوان، فهي ليست ألوانًا صامتة. وهج النيران يتغلغل إلى عيني المشاهد، يجعله يشعر بحرارة اللحظة، وكأنّ النيران التي تشتعل في خلفية اللوحة ليست مجرد عنصر تصويري، بل كائن حي اختاره الله ليقف إلى جانب الشهيد البطل. النيران هنا ليست دمارًا، بل طُهرًا، ورفيقًا في لحظة البطولة. هكذا يُدخلنا محمد علي الخطيب إلى عمق الحدث، لا كمشاهدين، بل كمشاركين.
لم يكن محمد علي الخطيب فنانًا محايدًا، بل كان صاحب موقف، ورسالة. قال مرارًا إنه كان يخشى أن تُمحى مناظر صيدا الطبيعية من الذاكرة، كما تُمحى معالمها بفعل العدوان، ولذلك رسمها مرارًا وتكرارًا، كي تبقى حية في ذاكرة الأجيال. وكان يقول: "أرسم الحرب، لأنني أخاف أن تُنسى. أرسم المقاومة، لأنني أخاف أن تُشوَّه. أرسم الجنوب، لأنه قلب الوطن النابض".
واليوم، في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها منطقتنا، حيث تختلط الأصوات وتُزيف الحقائق، يبدو لزامًا علينا أن نستعيد دروس محمد علي الخطيب، وأن نُذكّر العالم بأن المقاومة لم تأتِ من فراغ، بل من أرض، وناس، ومدن، أولها كانت صيدا الباسلة. وأن أولئك الأبطال، كالقبرصلي، لم يكونوا رموزًا عابرة، بل شواهد خالدة على ما يمكن للحرية أن تصنعه في قلوب الصغار قبل الكبار.
لقد علّمنا محمد علي الخطيب أنّ الفنّ ذاكرة الشعوب، وأنّ الريشة قد تكون أصدق من الرصاصة، وأنّ اللوحة قد تقاوم النسيان أكثر من الخطب. وفي ذكراه، نُجدد العهد بأن نروي الحكاية، نُخلّد الشهيد، ونُبقي صيدا والمقاومة في قلب الحكاية، تمامًا كما أراد.
--------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار مدينة صيدا / خليل متبولي: في ذكرى رحيل محمد علي الخطيب: حين رسم الذاكرة وخلّد البطل القبرصلي