https://sidonianews.net/article331641 /من شُباك ريحان!
صيدونيا نيوز

جريدة صيدونيانيوز.نت / من شُباك ريحان!

صيدونيانيوز.نت / أقلام ومقالات / من شُباك ريحان!

مرحبا، أنا ريحان، ولدت في مدينة منسية تسمى غ زة؛ تقع على حافة البحر، إلا أنني لا أرى من البحر سوى زورق حربي يطلق نيرانه متى شاء، وكأن البحر استبدل بمراكبه الرصاص!

تقول ريحان، صديقة والدتي من الجزائر، إننا نحمل الاسم ذاته، وبالرغم من اختلاف الجغرافيا فإننا نحمل أيضا الهم ذاته: هم القضية المنسية.

وتقول زينة، صديقة والدتي من مدينة جنين، في الشق الآخر من الوطن -حيث تحاصَر القرى كما تحاصَر الأحلام، وتمتزج رائحة الزعتر بالدم- إنني أحمل اسم قرية جميلة هناك، تقع بين جنين وأم الفحم، تسمى "أم الريحان".

أما أبي فيلتزم الصمت.. يبدو أن أمي وصديقتيها انتصرن عليه في معركة الأسماء!

علبة السردين

عادة ما كنت أستيقظ على صوت طابور الصباح في المدرسة المجاورة لنا.

في ذلك الوقت، كانت أمي تغلق ستائر الشبابيك حتى قرابة الساعة الـ12 ظهرا، كنت أعتقد آنذاك أن أمي لا تحب نظرات الفتيات إلينا، أو ربما تفضل الانشغال بتحضير الفَطور والغداء قبل تهوية الغرف.

بيد أنني في بعض الأحيان كنت أختلس النظر إلى الصفوف: إلى وجوه الطالبات، وإلى مشهد شرح المعلمة للدرس، أو إلى المشهد الأجمل بالنسبة لي، وهو: "بروفة العرس"! فلا أعلم كيف يبدأ صوت الطبلة على أحد المقاعد يتصاعد، وكيف تبدأ الفتيات بالغناء، وكيف يصمت الجميع في لحظة! لحظات من الفوضى الجميلة التي تبخرت تماما.

كانت أمي تسمي تلك الصفوف بـ"علبة السردين"؛ لتكدس الطالبات في كل صف، وزحام الشارع في الصباح والظهيرة.

لكن يبدو أن الاح تلال قد قرر استيراد المزيد من علب السردين مؤخرا؛ فمنذ بداية الإبادة تحولت المدارس إلى مراكز للإيواء، أي لم يقتصر الازدحام على البيوت فقط، بل امتد ليشمل المدارس، والجامعات، والطرقات! فأصبح المنبه بالنسبة لي ليس تحية العلم الفلس طيني في المدرسة، بل صراخ إحدى النازحات في المدرسة على أبنائها، أو شجار أخرى مع حماتها.

أشعر بأنني أعيش داخل شاشة عرض، لا تبث سوى مسلسل "علبة السردين" طوال اليوم، الحلقة تلو الحلقة، وجزء يتلوه جزء، في سلسلة يبدو أنها لا تنتهي!

ولم يعد الزحام في شارعنا مقتصرا على فترتين، بل أصبح حالة دائمة على مدار اليوم! خاصة حين وصول شاحنة المياه، حيث يتحول الجميع إلى مصارعين يسابقون لانتزاع حقهم في لتر من المياه!  يصطف الرجال باختلاف أعمارهم في طابور واحد، أما الأطفال والنساء فيتزاحمون في ذات الطابور أحيانا.

وفي كل مرة تضرب أمي كفيها بذات الطريقة، معلقة بذات الجملة: "عشنا وشوفنا النسوان في طوابير المية!". وفي الحقيقة، أستغرب من استغراب أمي، فهذه الطوابير أراها بشكل يومي، أراها تزداد يوما بعد يوم.

في السابق رأيتها أمام المخابز، واليوم أراها أمام شاحنة المياه، وفي انتظار شاحنات المساعدات (المقاطير).. يبدو أنني بدأت اعتياد مشاهد تكرهها أمي!

كنت أتمنى فتح المعابر، وسماح الاحت لال بدخول شاحنات المساعدات المحملة بعلب السردين، أو أن يسمح الاحت لال للصيادين الفلسطينيين بصيد سمك "السردين الحقيقي"، بدلا من تهجيرنا من مكان لآخر لإنتاج علب من "السردين البشري".

أما أبي، فإن أكثر ما يخشاه أن نعبَّأ جميعا في علبة سردين ضخمة.. في قلب الصحراء!

المطبخ الذي لا يخاف النار

على ألحان أغنية: "يا نبعة الريحان حنّي على الولهان.. حنّي على الولهان.. "تُحضر أمي "قلاية البندورة" في إحدى زوايا مطبخنا المحترق.

في الحقيقة، هذه إحدى مزاياه، تشعل نار الطبخ أينما شئت، دون الخوف من اتساخ الجدران. أما أكثر ما أكرهه فهو تحذيرها الدائم لي: "ما تقربي من الحيطان، بلاش أواعيك يتوسخوا..".

تحملني أمي إلى الشباك، لألتقط لها بعض ورقات الريحان.. ناولتها خمس ورقات، ثم قررت الانتظار على الشباك بجوار ريحانتي، بدلا من الاختناق بدخان النار.

في غ زة لا يمكن لك أن تجد "قلاية بندورة" بدون الثوم، أو الفلفل الأخضر، أما الفلفل الأسود فأمر مختلَف عليه، وهذا ما تفاجأت به أمي في الإبادة فقط، حينما اختلطت المطابخ معا.

ونتيجة لهذا الاختلاط أرادت أمي تجربة وصفة جديدة، وهي إضافة أوراق الريحان إلى "قلاية البندورة"… أخشى ألا تكون طيبة المذاق، فنحن في وقت لا يسمح بالتجربة إلى حد التضحية بـ"قلاية البندورة"!

بصراحة، تمنيت لو كان بجانبها صحن من السردين (غير المعلب طبعا)؛ فهو يشبه "قلاية البندورة" الخاصة بالسمك: فلفل أخضر، وبصل، وبندورة، وريحان.. ولأنها طبق خاص بالسمك، فإننا ننزع "الثوم" منها. فقد مللت من "وصفات البقاء"، ومن مطبخ بأربع بهارات: الصبر، والشوق، والحنين.. والحرمان!

الكثير من الطعام نسيت طعمه، والكثير من الوصفات تغيرت كليا، وأصبحنا نرفق بجانب اسمها كلمة "الكذابة".. "المقلوبة الكذابة"، "صيادية السمك الكذابة"، "سماقية كذابة"، "مسخن كذاب"، "مفتول كذاب".. حتى الفلافل أصبحت كذابة أيضا! فلم يعد الحمص هو العنصر الأساسي في الفلافل، بل يزاحمه اليوم العدس المجروش، والفول المجروش، والبازلاء المجففة، ولم يعد يُقلى بالزيت، بل بات يُشوى وكأننا طلبنا من هذا العالم أن يقدم لنا وصفة للتقشف، أو وصفة لقتل شهيتنا للطعام!

في مطبخنا المحترق، الذي لا يخاف النار، لا تقاس لذة الطعام بالمذاق، بل بقدرتنا على اختراعه! نأكل ما تبقى من الأمس، حتى وإن كان رغيف خبز عفن، ونمنح كل وصفة اسما جديدا -بشرط أن يشبهها- فقط كي نُقنع البطون أننا ما زلنا على قيد الحياة.. فقط كي نُقنع أنفسنا أننا بخير.. فقط كي نثبت لهذا العالم أننا أقوى من الحرمان.

حتى وإن كان كل شيء حولنا كذابا، فإن الجوع وحده لا يكذب أبدا.

من شُباك ريحان.. يكفي أن تبقى ورقة واحدة، لنطمئن أن البيت ما زال بيتا.. لنصدق أن في الذاكرة رائحة.. لم تُحرق بعد.

يكفي أن يبقى العود أخضر، لأكمل أنا، ريحان، الحكاية.

 

 

 

 


www.Sidonianews.Net

Owner & Administrator & Editor-in-Chief: Ghassan Zaatari

Saida- Lebanon – Barbeer Bldg-4th floor - P.O.Box: 406 Saida

Mobile: +961 3 226013 – Phone Office: +961 7 726007

Email: zaatari.ghassan@gmail.com - zaataripress@yahoo.com

https://sidonianews.net/article331641 /من شُباك ريحان!