جريدة صيدونيانيوز.نت / ذكرى انفجار وطن

 

sidonianews.net

 

 

العميد منير عقيقي

الجمهورية

«ما زلت أؤمن بأنّ الانسان لا يموت دفعة واحدة وإنما بطريقة الأجزاء. كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قتل حلم من أحلامنا مات جزء ...». كأنّ جبران خليل جبران لم يكتب إلّا للبنان وعن لبنان. كأنه حاضر فيه وبيننا امس واليوم وحتماً غداً. وفي انتظار «أن يأتي الموت الاكبر ليجد كل الاجزاء ميتة فيحملها ويرحل»، نُلملم في هذا الوطن تلك الاجزاء لعلها ترمّم في داخلنا صوراً مكسورة. عام على الرابع من آب، يوم انفجار مرفأ بيروت، معلناً انفجار وطن تآكل تحت وطأة المحاصصة والسرقات المقنعة والاقتصاد الموهوم. عام على سقوط 204 ضحايا وآلاف الجرحى و300 ألف مشرد، ناهيك عن دمار مئات الوحدات السكنية والتجارية والسياحية. عام على اختفاء مرفأ كان شاهداً على حضارة تعود الى اكثر من ستة آلاف سنة. لبنان بلد الحلم والحضارة، موطن المثقف والكتّاب وخلاق الموسيقى والكلمات والشعر، وصانع الذوق ومروج الموضة وناِثر الفرح... لبنان الاكاديمي الجامعي التعليمي الاستشفائي الخدماتي السياحي... لبنان «كل شيء في كل شيء»، تلاشى كما تتلاشى الاحلام مع كل موت. سقط صريعاً في لحظة حساسة لم يسبق للمنطقة ان شهدتها منذ مئة عام، وهي مئوية لبنان التي لم يتسنّ لنا الاحتفال بها، بل كانت محطة لمآس من الانهيارات التي تتوالى بلا توقف حتى أصبح اللبنانيون متسولين لكل شيء... للدواء... للغذاء... للمياه... للكهرباء... للهواء النظيف... صرنا نتسول كل شيء: تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، حتى حقنا الطبيعي في الحياة نتسوّله. انّ سقوط الدولة لا يحتاج كثيراً. يكفي ان تفتك المحسوبيات، وتنتشر المحاصصة، وتتنازع الغرائز الطائفية، ويحل الاستثناء بدلاً من القاعدة، وتهزم الفوضى القانون، ويضيع القضاء بين التسييس والضغوطات، حينها ستتآكل الدولة ويسقط الهيكل على رؤوس الجميع. بهذا المعنى، كان انفجار المرفأ السقوط الاخير. ماتت كل الاجزاء التي شهدت على موت الام والاب والاخ والاخت والابن والابنة والحبيب والحبيبة والزوج والزوجة والقريب والصديق والجار. قتلنا الأجمل فينا بأيدينا، باستزلامنا، بعدم مسؤوليتنا، بسكوتنا عن عدم تطبيق القانون بضمير حي بعيداً من التشفي والتسييس وتَسيّد المصالح على العدالة. اليوم ككل يوم، تمضي ايام ثقيلة على كل مَن فقد عزيزاً. في كل منزل قصة، وفي كل شارع رواية. وحده الموت مَن جمعَ حلم طفلة تنتظر لعبتها وتقف امام مرآتها تنتظر نموها وبلوغها، ومراهق في مدرسته يحلم في اختصاصه ونجاحه وعمله، وأم تنتظر ان تعود الى اولادها لتعيش معهم مراحل تطورهم، وأب يعود بعد تعب نهار وليل ليفرح عائلته بمردوده. قصص شهداء «انفجار الدولة» لا تتسع لأية رواية، فقد امتزجت الاسماء والاجساد والمهن والاختصاصات، وتوحّدت جميعها في سيرة موت وطن. الموت حقيقة تامة عند البشرية بكافة دياناتها ومعتقداتها، لكن أشكاله تختلف. الموت في لبنان هو من صنيعة الانتهازيين الفاشلين الصَنميين، المسؤولين عن الفساد والانهيار الاقتصادي والمالي والمجتمعي. لمرفأ بيروت تاريخه الحضاري. منذ أواخر القرن التاسع عشر ساهَم في تطور مدينة صغيرة، كلما توسّع كَبرت معه فكانت بيروت الجميلة. ها هي بيروت اليوم حزينة، ذابلة، خانها الارهاق والتعب. لم يبق منها سوى هيكل المرفأ القبيح الذي تفوح منه الصفقات التي سلبت أرواحنا التي لا يمكن ان تُشترى، والتي لن تذهب الى صناديق الاقتراع لتختاركم لأنها وحدها تعرف حقيقة وجوهكم. جريمة انفجار مرفأ بيروت تكاد تكون خيالنا الذي يرافقنا في كل خطواتنا. •رئيس تحرير مجلة «الأمن العام»

 

"ما زلت أؤمن بأنّ الانسان لا يموت دفعة واحدة وإنما بطريقة الأجزاء. كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قتل حلم من أحلامنا مات جزء ...". كأنّ جبران خليل جبران لم يكتب إلّا للبنان وعن لبنان. كأنه حاضر فيه وبيننا امس واليوم وحتماً غداً. وفي انتظار "أن يأتي الموت الاكبر ليجد كل الاجزاء ميتة فيحملها ويرحل"، نُلملم في هذا الوطن تلك الاجزاء لعلها ترمّم في داخلنا صوراً مكسورة.

 

عام على الرابع من آب، يوم انفجار مرفأ بيروت، معلناً انفجار وطن تآكل تحت وطأة المحاصصة والسرقات المقنعة والاقتصاد الموهوم. عام على سقوط 204 ضحايا وآلاف الجرحى و300 ألف مشرد، ناهيك عن دمار مئات الوحدات السكنية والتجارية والسياحية. عام على اختفاء مرفأ كان شاهداً على حضارة تعود الى اكثر من ستة آلاف سنة.

 

لبنان بلد الحلم والحضارة، موطن المثقف والكتّاب وخلاق الموسيقى والكلمات والشعر، وصانع الذوق ومروج الموضة وناِثر الفرح... لبنان الاكاديمي الجامعي التعليمي الاستشفائي الخدماتي السياحي... لبنان "كل شيء في كل شيء"، تلاشى كما تتلاشى الاحلام مع كل موت. سقط صريعاً في لحظة حساسة لم يسبق للمنطقة ان شهدتها منذ مئة عام، وهي مئوية لبنان التي لم يتسنّ لنا الاحتفال بها، بل كانت محطة لمآس من الانهيارات التي تتوالى بلا توقف حتى أصبح اللبنانيون متسولين لكل شيء... للدواء... للغذاء... للمياه... للكهرباء... للهواء النظيف... صرنا نتسول كل شيء: تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، حتى حقنا الطبيعي في الحياة نتسوّله.

 

انّ سقوط الدولة لا يحتاج كثيراً. يكفي ان تفتك المحسوبيات، وتنتشر المحاصصة، وتتنازع الغرائز الطائفية، ويحل الاستثناء بدلاً من القاعدة، وتهزم الفوضى القانون، ويضيع القضاء بين التسييس والضغوطات، حينها ستتآكل الدولة ويسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

 

بهذا المعنى، كان انفجار المرفأ السقوط الاخير. ماتت كل الاجزاء التي شهدت على موت الام والاب والاخ والاخت والابن والابنة والحبيب والحبيبة والزوج والزوجة والقريب والصديق والجار. قتلنا الأجمل فينا بأيدينا، باستزلامنا، بعدم مسؤوليتنا، بسكوتنا عن عدم تطبيق القانون بضمير حي بعيداً من التشفي والتسييس وتَسيّد المصالح على العدالة.

 

اليوم ككل يوم، تمضي ايام ثقيلة على كل مَن فقد عزيزاً. في كل منزل قصة، وفي كل شارع رواية. وحده الموت مَن جمعَ حلم طفلة تنتظر لعبتها وتقف امام مرآتها تنتظر نموها وبلوغها، ومراهق في مدرسته يحلم في اختصاصه ونجاحه وعمله، وأم تنتظر ان تعود الى اولادها لتعيش معهم مراحل تطورهم، وأب يعود بعد تعب نهار وليل ليفرح عائلته بمردوده.

 

قصص شهداء "انفجار الدولة" لا تتسع لأية رواية، فقد امتزجت الاسماء والاجساد والمهن والاختصاصات، وتوحّدت جميعها في سيرة موت وطن.

 

الموت حقيقة تامة عند البشرية بكافة دياناتها ومعتقداتها، لكن أشكاله تختلف. الموت في لبنان هو من صنيعة الانتهازيين الفاشلين الصَنميين، المسؤولين عن الفساد والانهيار الاقتصادي والمالي والمجتمعي. لمرفأ بيروت تاريخه الحضاري. منذ أواخر القرن التاسع عشر ساهَم في تطور مدينة صغيرة، كلما توسّع كَبرت معه فكانت بيروت الجميلة.

 

ها هي بيروت اليوم حزينة، ذابلة، خانها الارهاق والتعب. لم يبق منها سوى هيكل المرفأ القبيح الذي تفوح منه الصفقات التي سلبت أرواحنا التي لا يمكن ان تُشترى، والتي لن تذهب الى صناديق الاقتراع لتختاركم لأنها وحدها تعرف حقيقة وجوهكم.

 

جريمة انفجار مرفأ بيروت تكاد تكون خيالنا الذي يرافقنا في كل خطواتنا.

----------------------

جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار لبنان / ذكرى انفجار وطن

2021-08-03

دلالات: