Sidonianews.net
---------------------
فريديريك ويهري
نداء الوطن
بذلت وزارة الدفاع الروسية قصارى جهدها لتنظيم معرض الأسلحة السنوي خارج موسكو في أواخر شهر آب الماضي. طوال ثلاثة أيام، شارك وزراء الدفاع وشخصيات مرموقة من 41 دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط، في معارض للتكنولوجيا المتطورة وعروض للذخائر الحية، وشاهدوا راقصي الباليه وهم يقدّمون عرضهم فوق الدبابات ومقتطفاً من فيلم حركة حول عملية إنقاذ طيارين روس وراء خطوط العدو في سوريا في العام 2015. تزامن هذا المشهد مع عملية إجلاء الأميركيين الفاشلة من أفغانستان. كانت الرسالة واضحة: عادت روسيا إلى الساحة العالمية بكل قوة، لا سيما إلى الشرق الأوسط.
لطالما استغلت روسيا الإخفاقات الأميركية والشكوك السائدة وسط شركاء واشنطن القدامى لتوسيع بصمتها في الشرق الأوسط. لكنّ التهديد المطروح على النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة يبقى أقل خطورة من تحذيرات مسؤولين في عهد ترامب، مثل مستشارَي الأمن القومي السابقَين جون بولتون وهيربرت ريموند ماكستر. في العالم العربي تحديداً، تفوق طموحات موسكو الواسعة حجم نفوذها الحقيقي. لذا يُفترض ألا يبالغ صانعو السياسة الأميركية في تقدير قدرات روسيا في الشرق الأوسط فيما يسعون إلى التعافي من أزمة أفغانستان، وطمأنة الشركاء، وإعادة التركيز على الالتزام العسكري الأميركي تجاه آسيا.
قوّة مزيّفة
على بعض المستويات، يبدو الدور الروسي في الشرق الأوسط قوياً. نشرت موسكو قوات عسكرية ومرتزقة في سوريا وليبيا الغارقتَين في الحرب، فأكدت بذلك على براعتها في ملء أي فراغ تُخلّفه واشنطن في السلطة. كذلك، استعمل الكرملين مجموعة متنوعة من الوسائل لترسيخ نفسه داخل شمال أفريقيا وبلاد الشام ومنطقة الخليج. تبيع روسيا الأسلحة إلى دول عربية مثل الجزائر ومصر والعراق، وتتعاون عن قرب مع السعوديين للسيطرة على أسواق النفط العالمية عبر اتفاق "أوبك بلس". في الوقت نفسه، يحاول القادة الروس والإسرائيليون التأكيد على العلاقة الوثيقة بين الشعبَين، لكنهم يسعون وراء الكواليس إلى تجنب التصادم في سوريا.
تتحكم موسكو بهذه المغامرات العسكرية والديبلوماسية بسلاسة وبأقل كلفة ممكنة. لا يقلق نظام الرئيس فلاديمير بوتين من احتمال أن يحاسبه برلمان مستقل أو صحافة حرّة، ما يعني أن السياسة الروسية لا تتأثر بالمخاوف المرتبطة بنشوء ردود أفعال مضادة أو انتهاك حقوق الإنسان. هذه المسألة الأخيرة تروق للحكام المستبدين العرب لأنهم ينزعجون دوماً من المساعدات المشروطة التي تقدّمها واشنطن. تُعتبر ليبيا وسوريا من أفضل الأمثلة على المنافع التي تحصدها روسيا عبر هذه المقاربة: أثبتت موسكو أنها تستطيع التواصل مع جهات محلية وإقليمية بغيضة يعجز الغرب عن الوصول إليها، ما يعني أنها أصبحت الآن جزءاً من صانعي القرار في هذين الصراعَين.
لكن يبقى الأثر الاستراتيجي للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط أصغر مما يفترض الكثيرون. عند التدقيق بتحركات الكرملين في المنطقة، لا مفر من ملاحظة خيبات الأمل والإخفاقات الحاصلة هناك. ينجم هذا الوضع عن طبيعة الأدوات السياسية المحدودة التي تستعملها موسكو وتعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط. يحبذ اللاعبون الإقليميون اهتمام روسيا بهم لكنهم لا يتصرفون كعملاء خاضعين لها. حتى أنهم أثبتوا براعتهم في إحباط طموحاتها، لكن يغفل الخبراء الاستراتيجيون الغربيون عن هذا الجانب في معظم الأحيان.
في سوريا التي تُعتبر محور العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، أُعيقت قدرة موسكو على توجيه الأحداث في مناسبات متكررة. تحققت الأهداف الأصلية من التدخل العسكري الروسي، أي إبقاء نظام الرئيس بشار الأسد في السلطة وتجديد سيطرته على أهم الأراضي السورية، قبل أكثر من أربع سنوات. منذ ذلك الحين، اصطدم الكرملين مراراً بالقيود التي فرضها بنفسه حين حاول المشاركة في استرجاع جميع الأراضي التي بقيت خارج سطوة النظام ونجح في تخفيف العقوبات وتقديم المساعدات لإعادة إعمار دمشق، ولا ننسى تراجع التدخّل الروسي في شمال سوريا بسبب دول خارجية قوية مثل تركيا والولايات المتحدة. كذلك، تدرك روسيا أن نظام الأسد مستعد لوضع أبرز جهتَين تدعمانه، أي موسكو وطهران، في مواجهة دائمة.
على صعيد آخر، لم يحقق التدخل الروسي في ليبيا أهدافه. في أواخر العام 2019، نشرت موسكو مرتزقة من "مجموعة فاغنر" للمحاربة نيابةً عن أمير الحرب خليفة حفتر. لكن لطالما شككت موسكو بالكفاءة العسكرية لهذا القائد الليبي وولائه لروسيا. في بداية العام 2020، بعد وصول القوات العسكرية التركية لدعم خصوم حفتر في الحكومة الليبية التي اعترفت بها الأمم المتحدة، اضطرت روسيا للانسحاب من هجوم ضد العاصمة طرابلس والعودة إلى المسار الديبلوماسي.
كانت جهود روسيا لزيادة نفوذها في أماكن أخرى من المنطقة أكثر فشلاً بعد. لم تكن الجزائر ولا مصر، اللتان تشتريان كميات هائلة من الأسلحة الروسية، مستعدتَين لعقد شراكات استراتيجية دائمة مع موسكو أو تسهيل وصولها إلى قواعد جوية أو منشآت بحرية على المدى الطويل. في الوقت نفسه، يبقى اختراق روسيا للمنطقة محدوداً نسبياً من الناحية التجارية. على عكس الاتحاد السوفياتي، لا تموّل الدولة الروسية اليوم مشاريع ضخمة في مجال التنمية والبنية التحتية. بل تحمل الشركات الروسية الآن أهدافاً أكثر بساطة تقتصر على جني الأموال، لكنّ المنتجات التي تطرحها لا تستطيع منافسة الشركات الصينية أو الأميركية أو الأوروبية دوماً.
يثبت هذا النفوذ المحدود أن الأدوات السياسية التي تستعملها روسيا لا تسمح بمعالجة المشاكل الشائكة التي تواجهها المنطقة، منها تداعيات وباء كورونا، واضطرابات راسخة أخرى مثل الحُكم الاستبدادي والفساد وغياب الفرص الاقتصادية التي تنتظرها الفئات الشابة المتزايدة. لا تملك الولايات المتحدة أيضاً أي حلول بسيطة لهذه التحديات العابرة للأجيال، لكنها تستطيع على الأقل أن تتعامل مع المنطقة بناءً على إطار عمل شامل وقائم على احترام الحقوق، لا سيما في عهد الرئيس جو بايدن. في ليبيا مثلاً، لا يزال المواطنون يتكلمون بإيجابية حتى الآن عن جهود واشنطن بعد الثورة لدعم المجتمع المدني وقطاع التعليم وحرية وسائل الإعلام والحُكم المحلي. تتعارض هذه المساعي بكل وضوح مع المجالات التي تُركّز عليها روسيا لكسب الأرباح، أبرزها الأسلحة والبنية التحتية والطاقة، ولا ننسى مزاعم الأمم المتحدة الجديرة بالثقة حول إقدام مرتزقة "مجموعة فاغنر" على ارتكاب جرائم حرب.
الحجم الحقيقي للتهديد الروسي
يجب ألا يشك أحد بقدرة الكرملين على ارتكاب السوء في هذه المنطقة المضطربة. لكن لا يمكن تحقيق المصالح الأميركية في الشرق الأوسط إلا من خلال تقييم التهديدات التي تطرحها النشاطات الروسية بطريقة عقلانية وواضحة بدل الاكتفاء بنشر المخاوف بلا مبرر. يجب أن تعترف واشنطن مثلاً بأن موسكو ستفشل في حالات كثيرة، نظراً إلى إمكاناتها المحدودة وقدرة اللاعبين المحليين على إعاقة خططها.
وبعد أخذ هذه العوائق بالاعتبار، يجب ألا تتعامل واشنطن مع المنطقة من منظور الحرب الباردة. لن يكون أي تطور في الشرق الأوسط بمثابة ربح أو خسارة في معركة مفتوحة بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا. يُفترض أن يمتنع صانعو السياسة الأميركية مثلاً عن منافسة موسكو لبيع أكبر كمية أسلحة إلى دول المنطقة. لقد أتقنت الدول العربية الاستبدادية فن استغلال التحركات الروسية لانتزاع شروط أفضل من واشنطن. يجب ألا تقع الولايات المتحدة في هذا الفخ.
في الوقت نفسه، يُفترض ألا يتردد صانعو السياسة الأميركية في تحدّي النشاطات الروسية في الشرق الأوسط من خلال إطلاق بعض الردود المستهدفة بالوسائل الديبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أو عبر أشكال غير مباشرة من الضغوط. بعدما بدأت موسكو تطبع أوراقاً نقدية ليبية مزيفة لمساعدة حكومة حفتر على تمويل نفسها مثلاً، يقال إن المسؤولين الأميركيين حذروا شركاءهم في مالطا، فأوقفوا شحنة كانت تحمل أوراقاً نقدية ليبية مزيفة تفوق قيمتها المليار دولار. وأدى تدخل الاستخبارات الأميركية أيضاً إلى اعتقال ناشطَين روسييَن في العاصمة الليبية. كذلك، تمكّنت الولايات المتحدة أحياناً من تسليط الضوء على تجاوزات روسيا علناً. هذا ما حصل مثلاً حين نشرت القيادة الأميركية في أفريقيا صوراً تُوثّق الحشد العسكري الروسي في ليبيا، فأثبتت بذلك أن موسكو تنتهك قرار الأمم المتحدة بحظر توريد الأسلحة. من المستبعد أن تؤثر هذه التدابير على التوجه الروسي لإحداث المشاكل، لكنها قد تعيق أو تبطئ أخبث الأشكال في فن الحكم الروسي.
من الواضح أن مكانة واشنطن في الشرق الأوسط تضررت بعد الفشل الكبير في أفغانستان. لكن تبقى امتيازات الولايات المتحدة في هذه المنطقة استثنائية في نهاية المطاف. تتفوق واشنطن حتى الآن على جميع خصومها بفضل نفوذها السياسي والاقتصادي، وقوتها الصلبة والناعمة، وتمسّكها بالديبلوماسية متعددة الجوانب، ودورها القيادي في النظام العالمي المبني على القواعد. لهذا السبب، يُفترض أن يُركّز صانعو السياسة الأميركية على تعزيز هذه المنافع بدل تضخيم التهديدات التي تطرحها موسكو.
------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار العالم / روسيا ليست قوّة عظمى في الشرق الأوسط
2021-10-23