Sidonianews.net
---------------------
الأخبار / أحمد العبد
جنين |تُقرأ المخيمات من بواباتها، كما يُقرأ المكتوب من عنوانه؛ ومخيم جنين يمكن أن تقرأه من بقايا اجتياح 2002، والتي نهضت لتصبح جواداً جامحاً على أحد مداخله، فيما على المدخل الآخر ينتصب العنوان الكبير: «العودة»؛ والعودة لا تمرّ إلّا من فوّهات البنادق، وفي مخيم جنين، «عش الدبابير» أو «عاصمة الإرهاب» كما تحبّ إسرائيل تسميته، لم تسقط البنادق، ولم يجفّ الدم منذ 75 عاماً. 75 عاماً والمخيم يخوض المعارك تباعاً، وآخرها معركة الخمسين ساعة والتي لن تكون نهاية القتال؛ فالمخيم على موعد مع مواجهة جديدة حتماً، طالما بقي ينجب أطفالاً يحلمون بالعودة من فوّهات البنادق. وإلى أن تتحقّق العودة، فإن المعارك هي قدَر البقعة، التي عليها في كلّ مرّة أن تنهض من بين الأنقاض لتشحذ أظافرها، وتعجن لحمها ودمها بالقتال، بوصف الأخير جدوى مستمرّة. حكاية مخيم جنين تتلخّص برجال «آمنوا بربهم»، وسرّ إيمانهم أنهم قادرون على قرع رأس الوهم، والعبث بدولة نووية وتحدّيها، ولو بما لا يزيد على 150 شاباً متسلّحين بأسلحة خفيفة في مواجهة آلاف الجنود والدبابات والمجنزرات والطائرات.
إنه مساء الثالث من تموز: غارة إسرائيلية بطائرة مقاتِلة هزّت مخيم جنين الذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربّع واحد ويعيش فيه قرابة 15 ألف نسمة، أيقظهم دويّ الانفجار، الذي أعلن بنفسه عن بداية العدوان. استهدفت الغارة التي أرادت من خلالها إسرائيل بثّ الرعب في نفوس الأهالي، وإثارة الفوضى والاضطراب في صفوف المقاومين، نقطة لهم ارتقى فيها سميح أبو الوفا، لتتوالى عقبها الغارات الجوية. طوال الشهور الماضية، كان سكان المخيم يرقبون تصريحات الاحتلال حول التحضير لشنّ عملية عسكرية واسعة ضدّ المخيم، والتي أيقظت في أنفسهم ذكريات مجزرة 2002، فاستعدّوا للمواجهة بأقصى ما لديهم، مُدركين أن الحساب الذي لم يُغلق بينهم وبين دولة الاحتلال، سيدفع الأخيرة إلى الانتقام بأبشع صوره، وخصوصاً أن مخيمهم أضرم منذ عامين نار المقاومة في الضفة الغربية، وعمّم نموذج كتيبته على محافظات فلسطين ومخيماتها.
عائلة عرسان (القريني) واجهت مصيراً مرعباً في خضمّ هذه المواجهة الجديدة؛ إذ اتخذت قوات الاحتلال من أحد منازلها مقرّاً لقناصتها بعد الاستيلاء عليه، وبدأت بإحداث فتحات في جدرانه ونوافذه بما يسمح للقناصة بمراقبة المقاومين، بينما تكفّل بقية الجنود باحتجاز أفراد العائلة في إحدى الغرف وتكبيل أيديهم. هكذا، تحوّل هؤلاء، منذ اليوم الأول، إلى دروع بشرية بأيدي العدو، بمن فيهم يوسف عرسان الذي لم يتجاوز عمره 10 سنوات، والذي قيّد الجنود قدميه ويديه، كما تقول والدته لـ«الأخبار»، مضيفةً إنهم اعتدوا عليه بالضرب وأرادوا إخضاعه للتحقيق، لكن صراخ أقربائه المتواصل حال دون ذلك، ليبقى مقيّداً لعدّة ساعات. إبراهيم عرسان، عمّ يوسف، فقدَ بدوره منزله الذي احترق بالكامل جراء قصفه بصاروخ إسرائيلي، فيما تعرّضت ابنته لهجوم من كلب بوليسي أطلقه جنود العدو عليها، لينهشَ قدمها ويتسبّب بإصابتها.
75 عاماً والمخيم يخوض المعارك تباعاً
أمّا فادي وهدان (33 عاماً)، والذي يعيش مع زوجته و6 أطفال في بناية تقطنها 6 عائلات، فقد استيقظ، في الساعات الأولى من فجر الثالث من حزيران، على وقع انفجار قريب من المنزل. من الطابق الرابع في البناية، شاهد وهدان أعمدة الدخان تتصاعد من المكان المستهدف بالغارة الجوية (يُعرف بمنطقة الوكالة) والذي لا يبعد عن بيته سوى بضعة أمتار، ليعلَن لاحقاً استشهاد سميح أبو الوفا في تلك الغارة. توجّه فادي إلى منزل والدته التي تعيش في الشقّة السفلى من البناية، مع توالي أصوات القصف، واستهداف قوات الاحتلال نظام صافرات الإنذار منذ اللحظات الأولى، ومحاصرتها المخيم. بقي كلّ أفراد العائلة طوال الليل في شقّة الأم، إلى أن تلقّت الأخيرة، في ساعات الصباح، اتصالاً من ضابط في جيش الاحتلال، يطلب إليها تسليم ولديها الناشطَين في صفوف المقاومة، لتردّ الوالدة بنفي علمها بمكانهما أو وجود أيّ تواصل معهما. بعد هذا الاتصال، «قمنا بإخلاء البناية خشية إقدام الاحتلال على قصفها»، كما يقول فادي لـ«الأخبار»، مضيفاً «(إنّنا) انتقلنا إلى منازل جيراننا، لنُفاجَأ لدى عودتنا باقتحام بيوتنا، والمحالّ التجارية القائمة أسفلها، وتخريب محتوياتها».
حاول العدو إنجاز عمليته التي سمّاها «الحديقة والبيت» في غضون ساعات محدودة. ولذلك، سعى إلى اقتحام المخيم من أكثر النقاط ضعفاً، وتحديداً من جهة حارتَي الدمج وعبد الله عزام، ومنطقة الجبل (شارع مهيوب) وحارة الفالوجة. شهدت حارة الدمج، التي تطلّ على المخيم، أعنف الاشتباكات بين جنود الاحتلال والمقاومين، الذين نجحوا في نصب عدّة كمائن قاتلة ومحكَمة، قبل أن يتمكّن جيش العدو من محاصرة مسجد الأنصار الكائن في الحارة، الذي كانت مجموعة من المقاومين تتحصّن داخله. حاولت قوات الاحتلال إنهاء هذه الحالة في أسرع وقت ممكن، وهو ما دفعها إلى تفجير بعض جدران المسجد، والطلب من المقاومين تسليم أنفسهم عبر مكبرات الصوت، معتقدة أنها وضعت يدها على صيد ثمين. كما ضربت طوقاً لساعات حول «الأنصار»، وهدّدت بقصفه وتدميره. لكن، وبينما كانت إسرائيل تعِد نفسها بغنيمة كبرى، إذا بها تتلقّى صفعة مدوّية دفعت جيشها إلى الجنون؛ إذ استطاع المقاومون (قرابة 10) الانسحاب من المسجد عبر نفق كانوا قد حفروه سابقاً بالقرب منه، وتمكّنوا عبره من الخروج من المنطقة.
وسط منزلها المدمّر كلّياً، والذي سيجري تجريفه كلياً وإعادة بنائه، جلست فاطمة محمود (64 عاماً) على كرسي وحولها حفيداها. تعيش فاطمة بجوار مسجد الأنصار، الذي شهد على تلك الملحمة. تقول لـ«الأخبار» إنها خرجت من البيت في لحظات العدوان الأولى، وانتقلت الى منزل ابنها في قرية دير غزالة القريبة. وقد عايشت فاطمة، التي تنحدر من قرية صبارين في قضاء حيفا، الاجتياح الأول عام 2002، ورأت كيف قامت جرافات الاحتلال بهدم منازل المخيم، بما فيها منزلها. تضيف في حديثها إلينا: «طلعنا قبل العدوان، ولما رجعنا وجدنا الخراب والدمار في كل أرجاء المنزل، الذي أصبح غير صالح للعيش»، متابعةً: «ستأتي الجرافة وتزيله بالكامل». أمّا خالد أبو صبيح، وهو جار المسجد أيضاً، فتمكّن كذلك من الخروج من منزله مع اللحظات الأولى. يقول لـ«الأخبار»، إنه نظراً إلى ضخامة الحشود العسكرية التي دفع بها الاحتلال إلى محيط جنين، فقد أدرك أن الاجتياح لن يتأخّر، وبالتالي كان مضطراً إلى الخروج مع أطفاله، وعند عودته كان المنزل في حالة يُرثى لها. لكن «الأهمّ ممّا جرى هو سلامة الشباب المقاومين» كما يؤكد، قائلاً: «ما دام الشباب طلعوا بخير وسلامة، كل شيء بيتعوّض وبيترمّم، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه».
احتجز 15 جندياً الحاجّة حسنية 12 ساعة في منزلها
من جهتها، حسنية زيدان التي ولدت في قرية المنسي في قضاء حيفا، وخرجت من بلدها رضيعة على يد أمها وعمرها عامان إبّان النكبة، تعيش في حارة الدمج في انتظار العودة. حروبٌ عدّة عاشتها الحاجة حسنية، كان آخرها معركة مخيم جنين، والتي جرى خلالها اقتحام منزلها واحتجازها لمدة 12 ساعة من قبل 15 جندياً. تقول لـ«الأخبار»: «عندما كنت أستعدّ لمغادرة المنزل بناءً على طلب ابن شقيقي، تفاجأنا باقتحامه من قبل الجنود الذين احتجزونا من العاشرة صباحاً حتى العاشرة ليلاً في اليوم الأول للاقتحام، وخلال هذه الفترة، دمّروا الشبابيك ونشروا القناصة داخل المنزل». وتتابع: «لم نكن نرى ماذا يجري في الخارج، لكن أصوات القصف وإطلاق النار لم تتوقف. وعقب انسحاب الجيش من المنزل في العاشرة ليلاً، خرجتُ إلى دار شقيقي في منطقة السهل في جنين». وعن مشاهداتها لحظة خروجها تقول: «كان المقاومون في الشوارع يتصدّون لقوات الاحتلال، والحمد لله لم يصَب أحد منهم، وخرجوا سالمين وهذا أهمّ شيء، جيراننا من عائلة العرعراوي استشهد ابنهم وأصيب آخر بعينه، وهو طالب في الثانوية العامة».
حارة الفالوجة شهدت، بدورها، اشتباكات عنيفة منذ لحظات العدوان الأولى، حيث حاول جيش الاحتلال اقتحامها واستهداف المقاومين داخلها، متعمّداً قصف منازل المواطنين فيها وإحراقها بعد انسحابه منها في اليوم الثاني. أروى الخطيب، والدة الشهيد عبدالله الغول (استشهد في كانون الثاني الماضي)، تقف في منتصف الحارة أمام صور عشرات الشهداء، وتشرح عنهم للمارّة ولوسائل الإعلام، وبجانبها منزلها المتفحّم من جرّاء القصف. لم يكُن قد مرّ على عودتها من الديار المقدّسة سوى يومين عندما بدأ العدوان. تقول لـ«الأخبار» إن «المقاومين نصبوا في الحارة عدّة كمائن لقوات الاحتلال، فيما تعرّض منزلان لقصف جوي». وتضيف: «المقاومون ظلّوا حاضرين في الحارة وحولهم الأهالي، الذين رفضوا الخروج في اليوم الأول، وأصرّوا على البقاء حتى آخر نفَس. وحتى مع اقتحام جيش الاحتلال الحارة، واندلاع اشتباكات مسلّحة، كان الأهالي يمدّون المقاومين بكلّ ما يلزمهم». لكن في اليوم الثاني، اضطرّ الأهالي تحت التهديد بقصف منازلهم للخروج منها، بينما تعرّض منزل أروى للحرق الكامل، لكنها لا تكترث لذلك، وتؤكد أن الأهمّ «سلامة المقاومين». ويجاور منزلَ الشهيد عبدالله الغول، منزل الشهيد صهيب الغول الذي استهدفته طائرات الاحتلال المُسيّرة عند حاجز الجلمة قبل أسابيع. هنا أيضاً، بدت والدة صهيب متماسكةً ومندفعةً في حديثها بفخر عن المقاومين.
أداء المقاومة المدهش
كان لافتاً اعتماد المقاومة على مجموعة أساليب وتكتيكات في مواجهتها قوات الاحتلال، أبرزها الاستخدام الكثيف للعبوات المحلّية اليدوية التي تُسمّى «الأكواع»، والتي يتمّ توزيعها على الفتيان والشبان في الحارات والشوارع، وتستهدف بشكل مباشر الآليات الكبيرة، وتحديداً الجرافات العسكرية. أيضاً، تجنّب المقاومون الانكشاف في الشوارع والميادين نظراً إلى عمل الطائرات المُسيّرة في سماء المخيم، ما قد يعرّضهم للاغتيال، وبدلاً من ذلك، لجأوا إلى التحصّن في مواقع معيّنة، ونصب الكمائن واستدراج قوات الاحتلال إليها، توازياً مع إطلاق الرصاص من مسافات قصيرة، وتفجير عبوات ناسفة من مسافة صفر، كما حصل في كمين مسجد الأنصار وحارة الدمج التي قُتل فيها أحد جنود الاحتلال. ومن أجل تخفيف الضغط على المخيم، وعرقلة الإمدادات العسكرية، نشطت مجموعات المقاومة في محافظة جنين في استهداف قوات الاحتلال، بينما ركن المقاومون إلى أسلوب الانسحاب والعودة إلى مهاجمة آليات العدو من عدّة محاور مختلفة. كما بدا لافتاً، التنسيق العالي بين كلّ التشكيلات العسكرية التابعة للمقاومة في جنين، والوحدة الميدانية بين المقاومين.
محمد شلبي أبو جابر، أحد مؤسّسي «كتيبة جنين»، الذي تطارده قوات الاحتلال منذ 3 سنوات، وكان أحد الأهداف المطلوبة من اقتحام حارة الفلوجة، التقته «الأخبار» في المخيم، واستقت منه بعضاً من تفاصيل المعركة. يقول أبو جابر، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، إن نحو 160 مقاتلاً من «كتيبة جنين» والفصائل المتبقّية تصدّوا لجيش العدو، و«جسّدوا في الميدان وحدة وتعاوناً وتراصّاً، وخرجوا منتصرين»، مشيراً إلى أن «الاحتلال اعتمد خطّة للضغط على المقاتلين ومحاصرتهم والقضاء عليهم، بطريقة أشبه بأسلوب "طنجرة الضغط"، كان يُراد لها أن تنتهي بقصفنا وإنهائنا جميعاً، وبالتالي إنهاء المقاومة في مخيم جنين والضفة، حتى يتمكّن جنود العدو من اقتحام المخيم من دون مقاومة، لكنّ المقاومين تجاوزوا هذا الأمر، بتكتيك وتخطيط محكَمين». ويتابع أن «المقاومين استطاعوا بعد مقاومة شرسة الانسحاب بسلام، فيما استشهد خلال المعركة 3 من خيرتهم».
ويبيّن أبو جابر أنه «منذ تنفيذ الغارة الجوية الأولى، استنفر المقاتلون، وأدركوا أن العدوان قد بدأ»، مضيفاً حول ما جرى في حارة الفالوجة تحديداً أن «جيش الاحتلال لم يستطع اقتحام المنطقة، ليبدأ ضباطه وعبر مكبّرات الصوت بالصراخ "يلا يا فلوجة اطلعوا"، لكنّ المقاومين كانوا موجودين هنا واشتبكوا وقاوموا». ويوضح أن «العدو اختار هذه المناطق للتوغّل والاقتحام كونها الأضعف، كما يصعب على المقاومين الوصول إليها، فمنطقة الجبل مثلاً بعيدة ومرتفعة»، متابعاً أن «جيش الاحتلال حدّد هذه المناطق للتوغّل بعد رصدها الدائم من قبل طائرات الاستطلاع». ويشيد بالحاضنة الشعبية للمقاومين، قائلاً: «كان هناك استبسال من المقاومين وحاضنة من الأهالي، فنحن أولادهم، وكلّ دار فيها أسير أو شهيد أو جريح، وبالتالي هم يقفون إلى جانب أولادهم». وعن تداعيات فشل الاحتلال في الوصول إلى المقاومين، يرى أبو جابر أن «انسحاب المقاومين في الوقت المناسب مثّل ضربة قوية لإسرائيل.
لقد أصيبت بالجنون وهي لا تعلم كيف حدث ذلك. تخيّل أن رابع قوة في العالم تدفع بقوتها لمواجهة 150 شاباً لديهم إمكانات بسيطة. لو كانت لدينا قوة إسرائيل لسيطرنا على العالم في غضون يومين. نحن نتحدّى رابع أقوى دولة في العالم وسنبقى نتحدّاها، ونحن خرجنا بعد الاجتياح بقوة ربّنا وبعونه». إزاء ذلك، لجأت إسرائيل إلى الانتقام من الأهالي، وتعمّدت تدمير البنية التحتية وتخريب ممتلكات المواطنين، في محاولة لتأليب الرأي العام ضدّ المقاومة، لكن أبو جابر يؤكد أن «قبول الناس لنا زاد بعد العدوان وهذا ما لمسناه. معنوياتنا عالية وسنبقى نتحدّى الاحتلال، هذا الجيل والجيل الذي سيأتي خلفنا. ابني عمره 8 سنوات، وأنا منذ الآن أعلّمه أن لنا بلاداً محتلّة، وإذا كنّا نريد العيش بكرامة فيجب علينا دوماً أن نقاتل هذا المحتلّ». في اجتياح عام 2002، كان أبو جابر فتى يبلغ من العمر 16 عاماً، وهو اليوم لا يقاتل من أجل الدفاع عن مخيمه، بل من أجل العودة إلى بلده الذي هُجّر منه وعائلته، إلى قرية قنير قرب حيفا.
منطقة الجبل، التي تُعدّ أعلى منطقة في المخيم، كانت هي الأخرى أحد المحاور التي شهدت مواجهات عنيفة، وألقى جيش العدو بغضبه وقهره على المواطنين فيها، بعد فشله في الوصول إلى المقاومين هناك، إذ بعد ساعات من بدء العدوان، اقتحمت قوات الاحتلال منازل الأهالي، وتعمّدت تخريبها وتدميرها، ومن بينها منزل ماهر مرعي (55 عاماً)، والد الشهيد محمد مرعي، والذي تعرّض لاقتحام وحشي من قبل 15 جندياً في اليوم الثاني، بعدما جرى تفجير مدخله. يقول مرعي، الذي كان متواجداً مع طفلاته الثلاث (أكبرهنّ عمرها 12 عاماً) وولديه وزوجته في المنزل لحظة الاقتحام، لـ«الأخبار»، إن «جنود الاحتلال تفاجؤوا بوجودنا في المنزل، وقد اعتدوا بشكل وحشي على ولديّ إيهاب وتامر بالضرب، قبل أن يتمّ اعتقالهما، وإخراجهما عبر فتحات قاموا بفتحها بين المنازل المتجاورة». وبعد خمسة أيام، أفرجت قوات عن إيهاب، لكنّ تامر بقي معتقلاً لدى سلطات العدو.
منزل المواطنة فاطمة محمود المجاور لمسجد الأنصار، والذي تعرّض لقصف وتفجير وبات غير صالح للسكن (الأخبار)
وفي «الجبل» أيضاً، كانت المقاومة حاضرة، ومتحفّزة للمواجهة بشراسة. يقول أحد المقاومين في «كتيبة جنين»، لـ«الأخبار» الذي رفض الكشف عن هويته، إن «المقاومة كانت تراقب الحشود العسكرية على منطقة الجلمة، والدفع بآليات كبيرة مثل جرافات D9، مثّلت مؤشّراً إلى أن العدوان كان قريباً، ومع الغارة الأولى تأكّدنا أن الحرب قد بدأت». ويلفت المقاتل الذي لا يتجاوز عمره 25 عاماً إلى أن «ما قهر جيش الاحتلال أن المقاومين لم ينكشفوا في الشوارع والحارات، بل أخذوا مواقعهم وكمائنهم، واعتمدوا على سياسة جرّ جنود الاحتلال، ومراقبة تحركهم، ونصب الكمائن لهم». ويضيف أن «المقاومين كانوا يدركون أن جيش الاحتلال سيلجأ إلى الاستعانة بالطائرات المسيّرة للانقضاض على المقاومين، وهذا أمر تنبّهنا إليه، وجعلنا لا ننكشف كي لا نتعرّض للقصف»، متابعاً أن «المقاومين نجحوا في نصب كمين محكم للاحتلال في حارة الدمج، وأوقعوا في صفوف جنوده الخسائر المؤكدة، لكن جيش العدو لا يعترف بخسائره كعادته». ويؤكد أن «المقاومين خرجوا بسلامة وقوة، والجيش ازداد قهره وغيظه، إلى حدّ أنه دفع وحدة من الجنود إلى التقاط صور أمام مدخل المخيم تحاكي صورة الكتيبة المشهورة، بعد أن وضع جنوده المجنزرات في الكثير من المحاور حتى لا يتعرّضوا لإطلاق نار أثناء التقاطهم الصورة»، قائلاً: «حتى من الصورة هم مقهورون ويريدون تقليدنا». ويشير المقاوم إلى «(أنّنا) حين ننزل إلى الميدان، الجميع يتوحّد، لا توجد فصائل بل وحدة في الميدان»، مضيفاً أن «الأهالي عندما خرجوا من منازلهم أبقوها لنا مفتوحة، ووضعوا لنا الأوراق والإرشادات حول أماكن الطعام والشراب وكلّ الاحتياجات، أي جعلوا منازلهم تحت تصرفنا».
في عام 2002، لم يكن هذا المقاوم قد بلغ عامه الرابع بعد، لكنه يتذكّر بعض الأحداث، ومنذ أن بدأت إسرائيل بملاحقته قبل عامين، لا يفتأ يعود إلى دفاتر الانتفاضة الثانية ومعركة المخيم، لاستكشاف الأساليب التي اتّبعها قادة المقاومة آنذاك، من مثل محمود طوالبة وزياد العامر وأبو جندل. فتلك المعركة لم تنتهِ في ذلك اليوم، بل هي لا تزال تتجدّد فصولاً، وما «بأس جنين» إلّا بعضٌ من امتداداتها، التي ستظلّ تُخرج لنا مفاجآت شديدة الإدهاش.
-------------------------
جريدة صيدونيانيوز.نت / اخبار العالم العربي / في جنين: بيت المقاومين
2023-07-14